بقلم - عبد المنعم سعيد
عرف الشرق الأوسط أشكالاً متعددة من الانقسامات عبر تاريخه المعاصر؛ وفي فترة كان ذلك انعكاساً للحرب الباردة العالمية بين من انحازوا للكتلة الغربية والآخرين الذين ذهبوا في اتجاه الكتلة الشرقية، وفي الستينات كتب مالكولم كير كتاباً كاملاً عن الحرب الباردة العربية. في أوقات أخرى كان السلام مع إسرائيل هو موضوع الفُرقة الإقليمية، ولكن الزمن لم يَطُل أكثر من عقد على السلام المصري - الإسرائيلي حتى جاء الغزو العراقي للكويت، وبعد تحريرها ذهبت كثرة من الدول إلى مؤتمر مدريد الذي جاء بعده السلام الأردني- الإسرائيلي واتفاق أوسلو. لم تكن موجات السلام وحدها على الساحة، فقد كان في المواجهة «جبهة الصمود والتصدي» تارةً؛ و«جبهة المقاومة والممانعة» تارةً أخرى. وبعد «الربيع العربي» المزعوم، جرى انقسام آخر بعد فترة الفوضى والحرب الأهلية إلى معسكر «الإصلاح» الجذري والعميق للمجتمعات بالتأكيد على الدولة الوطنية واختراق إقليم الدولة وتعبئة مواردها ومشاركة المواطنين في عمليات البناء رجالاً ونساءً وشباباً. المعسكر الآخر ظل على حاله مصمماً على «الممانعة» التي تعني رفض كل ما هو تقدمي، والبقاء في حالات المواجهة المزمنة. الأولون كان ديدنهم العمل بكل الطرق الممكنة من أجل تحقيق الاستقرار الإقليمي وانتهاج طريق السلام من أجل حل القضية الفلسطينية على الأسس المقررة في المبادرة العربية للسلام.
حرب غزة الخامسة -كما أوضحنا في كتابات أخرى- كانت محاولة معسكر «الممانعة» لإفساد الطريق على تحقيق الاستقرار في الإقليم وحل معضلاته المزمنة. الحرب كما رأينا قادت إلى مواجهة كبرى ومأساة إنسانية مروعة تنافس تلك التي جرت في حروب عظمى في مدى التدمير وعدد الضحايا. المراقبون للحرب باتوا في حالة الجزع من إمكانية تحول الحرب إلى حرب إقليمية دخلها «حزب الله» في لبنان، ووسَّعت إسرائيل نطاقها من قطاع غزة إلى الضفة الغربية؛ بينما تحاول دول تحويلها إلى «هدن» تعطي الفرصة لوقف إطلاق النار. آخِر فصول تعميق عدم الاستقرار في المنطقة اعتداء قوات «الحوثي» في اليمن على السفن التجارية في البحر الأحمر، والتحرش بسفن أخرى مما دفع الولايات المتحدة إلى السعي مع دول غربية أخرى لإنشاء قوة بحرية تضمن حرية الملاحة في الممر الدولي المائي الذي يربط بين مضيق باب المندب وقناة السويس. الهدف كما هو واضح ربط المواجهة الشاملة في فلسطين، بتلك الجزئية على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية، بجبهة جديدة في البحر الأحمر بما له من حساسية شديدة للتجارة العالمية تلعب فيها إيران دوراً كبيراً بالتسليح والتدريب والتمويل والتوجيه.
الجبهة الجديدة تضيف ساحة أخرى للتمييز الجاري بين ما تقوم به دول الإصلاح من بناء على جانبَي البحر في مصر والسعودية، وبين ما تحاوله جماعة «الممانعة» من تخريب كل ما يتعلق بالاستقرار الإقليمي والسير في اتجاه البناء والتقدم. الثابت أن المشروع الإصلاحي المصري يقوم على الانطلاق بالعمران من نهر النيل إلى البحرين الأحمر والأبيض وفي اتجاه الشمال الشرقي، حيث تعمير سيناء التي يحتويها البحر الأحمر بخليجَي العقبة والسويس. التوجه التنموي السعودي يأخذ اتجاه إقليم «العلا» في الشمال الغربي، حيث توجد المشروعات الكبرى الخاصة بنيوم وغيرها. على كلا الشاطئين، المصري والسعودي، توجد 81 جزيرة في غرب البحر وأكثر من مائة في شرقه، وعلى كلا الجانبين توجد مشروعات كبرى للتنمية والبناء. ولم تكن صدفة أنه في وقت مغامرات الحوثيين في البحر الأحمر انعقد مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي الذي كان من ناحيةٍ داعماً لعملية بناء القوة الناعمة للمملكة العربية السعودية، وكذلك منطقة البحر الأحمر. المهرجان كان تنويعاً لمصادر الثروة، والتوجه نحو الغرب في البحر الأحمر لكي تنتشر التنمية، ويعتدل الميزان التنموي والجغرافي في الدولة.
لم تكن هناك مفاجأة جديدة عندما بدأت قوات الحوثيين من اليمن في قصف أهداف في جنوب إسرائيل في الميناء الإسرائيلي إيلات (وفي الطريق سقط صاروخان على طابا ونويبع المصريتين)، وفوق ذلك بدأت في أَسْر سفن معلنةً في الوقت نفسه أنها لن تسمح بمرور سفن إسرائيلية من أي نوع في مضيق باب المندب. عمليات البحر الأحمر الحوثية ما لبثت أن توسعت إلى صدام واحتكاك مع سفن أميركية وبريطانية مستخدمةً في ذلك صواريخ وطائرات مسيّرة؛ وباختصار أصبح البحر مسرحاً إضافياً لعمليات فيها بصمات إيرانية واضحة.
لم تكن هذه هي المرة الأولى لكي يكون البحر مسرحاً لحرب في الشرق الأوسط؛ فقد أعلنت مصر إغلاق مضيق باب المندب في أثناء حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، ولكنّ الحرب كانت قصيرة، بينما خلال الثمانينات من القرن الماضي أعاقت الملاحة سلاسلُ من الألغام البحرية التي كانت عليها بصمات إيرانية في ذلك الوقت. وفي أوقات قريبة في هذا القرن فإن الملاحة اضطربت بفعل عمليات القرصنة التي حدثت على سواحل القرن الأفريقي وبحر العرب، وفي كل الحالات كانت هذه التهديدات والتحديات لا تضر فقط الأطراف المتحاربة وإنما تؤثر على الملاحة الدولية بما فيها المرور في قناة السويس التي بلغت هذا العام أعلى أيام ازدهارها. حرب البحر الأحمر الجديدة تعلن أن هدفها هو إسرائيل ولكن الأهداف الأخرى غير المعلنة هي وضع يد إيران على بحر دولي بين مصر والسعودية، حيث توجد نظرة أخرى لمستقبل المنطقة وشعوبها الساعية نحو الإصلاح والتنمية والتقدم.