بقلم : عبد المنعم سعيد
أبواب عام جديد تعطى سببًا إضافيًّا لضرورة المضى قدمًا فى عمليات الإصلاح فى المنطقة، بعد أن بلغ السيل الزبى مما جرى منذ «طوفان الأقصى» فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣.العام الجديد فى مطلعه يعطى للزمن مقدرة على الضغط، وما يحدث للبشر يجرى أيضًا على الأمم والأقاليم، التى يضيع وقتها دون خروج من مأزق أو أزمة أو- بالتأكيد- حرب. حتى وقت كتابة المقال، لم يكن الفرقاء قد توصلوا إلى وقف إطلاق النار وتبادل الرهائن والأسرى، وخط سير من المفاوضات لجعل ما هو مؤقت ممتدًّا ويصل إلى عملية سلام فى مستقبل منظور.
ما حدث خلال هذه الفترة من خسائر فى البشر والعمران، خاصة فى غزة، بات مثل قرية «جورنيكا» الإسبانية، التى خلدها بابلو بيكاسو فى لوحته الشهيرة، ولا يحسب كثيرًا الزمن والفرص الضائعة. إسرائيل التى خرجت من الحرب شاهرة الانتصار فقدت الكثير من الخسائر البشرية والأخلاقية والمادية، وأكثر من ذلك «الفرص الضائعة»، التى راحت فى زمن الحرب وثمنها الفادح. ما تولد من أقدار هائلة للكراهية والمقت والبحث فى السياسات الانتقامية يغلق طريق السعى نحو الإصلاح فى المنطقة العربية.
بداية العام لا تُعيد فقط حقيقة دوران الزمن؛ ولكنها تتطلب أيضًا الحاجة إلى المراجعة وضبط اللسان والبحث عن طريق سلام يُخرج المنطقة من الدراما الموجعة التى عاشتها خلال العقود الأخيرة. ربما كانت سوريا هى آخر مشهد لعدم اليقين فى المنطقة، ولكن نقطة الاشتعال تظل ما بدأ فى حرب غزة الخامسة، ولا يزال باقيًا حتى الآن فى انتظار الانتقام الإسرائيلى من الحوثيين، ومن بعده ربما ينال «نتنياهو» مرامه الذى يحلم به بضرب إيران وأحلامها النووية.
الوضع هكذا منفلت، ولكنه يلقى على عاتق مصر بقدرات الدولة الوطنية فيها، وما عرفته من تجربة سلام واستعادة أراضيها المحتلة، وما تحتاجه من أجل التنمية والتقدم؛ أن يكون ما تمنحه إلى الأوضاع القائمة ليس فقط العمل كوسيط، وإنما طرح الفكر الذى يجعل من الزمن ساحة لتغيير الظروف المُرة. السائد لدينا هو دعوة العالم والمجتمع الدولى إلى التصرف، وأحيانًا الولايات المتحدة والدول الغربية؛ ولكننا نستبعد فى نفس الوقت أن بناء الدولة الفلسطينية المستقلة لا يحدث من منحة إسرائيلية بقدر ما يعتمد على الأشقاء فى فلسطين.
مصر فى تاريخها وضعت بناء الدولة من دستور ومؤسسات وجيش ومكانة دولية، حتى وهى تحت الاحتلال البريطانى. آن الأوان لكى يستمع الأشقاء فى فلسطين إلى أن الدولة لن تقوم مادام هناك ١٤ فصيلًا مسلحًا، وحماس توجد فى غزة، بعد أن جرى قتل ٤٥ ألف فلسطينى مع العودة الكاملة للاحتلال الإسرائيلى، وفى انتظار موكب الاستيطان مرة أخرى.
فى حالة استقامة الدولة الفلسطينية على الأرض بأن تكون هناك وحدة للسلاح مع السياسة، فإن إمكانيات عقد صفقة مع إسرائيل تقوم على إدماجها فى المنطقة بما يضمن لها ولنا سلامًا دائمًا سوف تكون ممكنة. الصفقة قائمة على مبادرة السلام العربية منذ ٢٠٠٢، ولكنها جاءت فى وقت الانتفاضة الثانية العسكرية، التى فى وقت إطلاق الرصاص والعمليات الانتحارية تصبح لا أساس لها.
من حق الفلسطينيين والعرب تمامًا أن يتساءلوا عن الحاجة لإصلاح إسرائيل، التى توحشت بفعل الانحراف إلى اليمين المتشدد والمسلح، حتى فى مواجهة الدولة الإسرائيلية. هذه النوعية من اليمين الدينى، مثل اليمين الدينى لدينا أيضًا، لا تؤمن إلا بوجود صراع وجودى بين أطراف غير قابلة للحل أو التعامل مع المستقبل وليس الماضى. الإشارة المهمة هنا أن السلام فى الإقليم أصبح ضرورة، فعلى غير ما هو سائد، فإن المنطقة لم تعرف الصراع مع إسرائيل وحدها، بل إن أكثر الخسائر كانت واقعة فى حروب أهلية دمرت دولًا وأوطانًا.
مشروع بناء الإقليم يقوم على السلام والأمن الإقليمى. سبقتنا إليه أقاليم أخرى فى العالم، بدأت فى أوروبا التى عاشت حربين عالميتين كان التدمير فيهما قاسيًا. النتيجة كانت حلف الأطلنطى والمسيرة التى وصلت إلى الاتحاد الأوروبى من السوق الأوروبية المشتركة. فى آسيا وُلدت الحرب الفيتنامية وتوابعها فى لاوس وكمبوديا، والتى بدأت مع فرنسا وانتهت مع الولايات المتحدة؛ وما سبقها من الحرب الكورية بطرفيها الصينى والأمريكى؛ كل ذلك نتجت عنه أكبر عملية للتنمية والأمن الإقليمى عرفها العالم رغم الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، والآن التوتر بين واشنطن وبكين.
تنظيميًّا، وُلدت «آسيان»، التى خلقت رابطة تقوم على أكثر معدلات النمو الاقتصادى ارتفاعًا فى العالم، مع أوضاع مناسبة للاستقرار فى الأمن الإقليمى والأمن الواقع داخل كل دولة.