بقلم - عبد المنعم سعيد
انتهى مقال الأسبوع الماضى بالسطور التالية: «النتيجة، ووقت كتابة هذا المقال، تحققت إقامة أول هدنة فى الأزمة اعتبارًا من الخميس ٢٣ نوفمبر الماضى، ولمدة أربعة أيام، قابلة للامتداد يومًا، مع الإفراج من قِبَل منظمة حماس عن عشرة جدد من الرهائن. هذه النافذة الصغيرة على الأرجح سوف تفتح طريقًا إلى المفاوضات، مع ملاحظة أن الثابت هو أن الطرفين وعدا جمهورهما باستمرار القتال، خاصة على الجانب الإسرائيلى. السؤال الآن هو كيف لمصر أن تسير فى هذه الطرق المتعرجة بين السلام والحرب، وأن تستمر فى طريقها التنموى فى نفس الوقت؟. تلك هى المسألة!». فى الواقع اختلف الأمر فيما يتعلق بموعد سريان «الهدنة» من الساعة العاشرة صباح الخميس إلى السابعة من صباح اليوم التالى الجمعة ٢٤ نوفمبر، ولنفس المدة، أربعة أيام، تنتهى يوم الإثنين ٢٧ نوفمبر الماضى. أمسك العالم أنفاسه، بينما الدبلوماسية المصرية القطرية تسعى بنشاط يسابق الزمن لكى يجرى تجديد الهدنة لمدة يومين بنفس الشروط السابقة؛ وعندما جرى النجاح بدأت جولة جديدة من المفاوضات على أساس القاعدة القائمة لتبادل الأسرى والرهائن لكى يتم الحصول على يومين إضافيين. الدبلوماسية هنا تمتعت بقدر كبير من الذكاء عندما وضعت قواعد الاستبدال وطريقة تطبيقه فى الواقع بين حائز الغنيمة البشرية، وبين كسب المزيد من الوقت للتفاوض على ما هو أبعد، أى وقف إطلاق النار الكلى والشامل، على أمل أنه إذا ما حدث ذلك يمكن نقل المفاوضات إلى مستوى أعلى يتعلق بالقضية الشائكة لإدارة قطاع غزة، بعد أن سكتت المدافع. هنا تنتقل المفاوضات إلى مستوى آخر، ربما يكون هو الضمانة لعدم تكرار ما حدث مرة أخرى، وهو التفاوض حول حل القضية الفلسطينية من خلال ما هو معلوم عن «حل الدولتين».
هكذا كان هو التفكير المصرى أن تخلق توافقًا إقليميًّا عربيًّا ودوليًّا على هذا التسلسل، وقبول العون من كل مَن يستطيع تقديمه، بدءًا من قطر، التى أثبتت أن صغرها وغناها يمكنهما أن يعطيان ميزات تفاوضية غير قليلة، وحتى بقية الدول العربية والأصدقاء فى العالم، بما فيها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى، التى وقفت إلى جانب إسرائيل من ناحية، ولكنها من ناحية أخرى تسابقت لتقديم العون والإغاثة للفلسطينيين فى غزة والتأكيد على حل الدولتين. ولكن فى المقابل فإن التمديد الثانى لوقف إطلاق النار قابلته عثرة أن «حماس» وضعت فى قائمة التسليم إلى الجانب الإسرائيلى ثلاثة من القتلى؛ وهو ما أعطى إسرائيل فرصة للاعتراض بأن الاتفاق يعنى الإفراج عن الرهائن الأحياء. فى الواقع فإن إسرائيل كانت تريد التسريع بالحصول على الرهائن من العسكريين؛ وربما لكى تعطى للمتطرفين فى الحكومة الفرصة للضغط من أجل استئناف العمليات العسكرية، خاصة أن حماس هى الأخرى أصدرت أمرًا استمع إليه الجميع إلى قواتها بالاستعداد لجولة. حتى وقت كتابة هذا المقال، كانت الهدنة الثانية قد استقرت مرة أخرى؛ وبينما كانت الاستعدادات جارية لهدنة ثالثة على أقل تقدير، فإن الأجواء كلها جعلت الحصول على الخطوة الثانية لوقف كلى لإطلاق النار صعبة وعصية، فضلًا عما يلِى من مستويات تصل إلى التسوية الكلية للصراع. فوق كل ذلك، فإن مصر لا يمكنها تجاهل آليات التصعيد الكامنة فى الجبهات الداخلية لإسرائيل وحماس، وكذلك ما يرسله معسكر التطرف على الجانبين من إرسال الإشارات والعلامات الدالة على الاستعداد لتصعيد الصراع إلى مستويات أعلى من العنف كما هو حادث داخل الحكومة الإسرائيلية، وفى معسكرات حزب الله اللبنانى والحوثيين فى اليمن.
ورغم أن مصر لن تترك فرصة لإقرار السلام فى المنطقة إلا وتبذل جهدًا فائقًا لانتهازها، فإن القاعدة الأساسية للاستراتيجية المصرية تقوم على أنه فى الوقت الذى تسعى فيه مصر لاستمرار عملية البناء الداخلية وتحقيق الإصلاح الاقتصادى والإدارى لتجاوز الأزمة الاقتصادية الراهنة بإجراءات أشد جرأة؛ فإنها سوف تسعى إلى تعزيز مكانتها الإقليمية فى معالجة الأزمة الناجمة عن حرب غزة الخامسة بالبناء على ما قامت به حتى الآن انطلاقًا من أن «السلام» هو السمة الأساسية والاستراتيجية للسياسة المصرية، وجوهره تحقيق حل الدولتين فى القضية الفلسطينية. ولتحقيق ذلك، فإن عددًا من الخطوات بات ضروريًّا، أولاها استكمال جميع المشروعات القومية الحالية؛ وافتتاح ما تحقق منها لكى يشعر العالم والمنطقة بما أنجزته مصر، وتوليد دخول جديدة منها. وثانيتها أنه لابد من إقناع العالم بأن مصر جادة فى عملية الإصلاح الداخلى، والإقناع يكون بإجراءات عملية. وثالثتها السعى نحو وجود ائتلاف إقليمى بين دول السلام والتنمية العربية؛ ووفقًا لموقع «إكسيوس»، فإن المملكة العربية السعودية قد أبلغت واشنطن أنها مستمرة، وبجدية، فى المسار الذى كان سابقًا على حدوث حرب غزة. التنسيق مع المملكة خلال المرحلة المقبلة سوف يكون حيويًّا، خاصة بعدما جاءت نتائج القمة العربية الإسلامية متوافقة مع ما سبق تقريره فى بيان الدول التسع، المنبثق عن مؤتمر السلام فى مصر، وما وفرته المملكة من عون للجهد المصرى للإغاثة فى غزة جوًّا وبحرًا.
رابعتها السعى نحو تغييرات جوهرية داخل السلطة الوطنية الفلسطينية، من خلال الدفع لدى الولايات المتحدة وإسرائيل من أجل الإفراج عن «مروان البرغوثى»، الذى يمثل الشخصية الفلسطينية الوحيدة القادرة على قيادة الشعب الفلسطينى فى هذه المرحلة، باعتباره «مانديلا الفلسطينى»، مع إمكانية الفوز- وفقًا لاستطلاعات الرأى العام- فى انتخابات فلسطينية عامة. مثل ذلك يجرى بالتوازى مع الدعوة إلى فترة انتقالية تقودها شخصية مثل «سلام فياض» على رأس حكومة وحدة وطنية تبدأ مع وقف إطلاق النار يمكن فيها تكوين «قوات ردع» عربية أو دولية لتعزيز قدرات السلطة الوطنية الفلسطينية فى إدارة غزة وتعميرها بالتعاون مع مصر ودول الخليج. وخامستها أن المخاطبة المباشرة للشعب الإسرائيلى- كما فعل الرئيس السادات من قبل- يمكنها تغيير التحالف السياسى الإسرائيلى الحالى، من خلال تكثيف الاتصالات العربية مع «عرب إسرائيل» والقوى السياسية فى الوسط واليسار، خاصة تلك التى تزعمت الثورة على نتنياهو لحماية اختصاصات المحكمة العليا الإسرائيلية قبيل مفاجأة حماس فى ٧ أكتوبر. وبالطبع لن يتأتى ذلك إلا إذا تم منع انتشار وتوسيع نطاق الأزمة الراهنة؛ وإذا لم يتيسر ذلك، فيجب الوصول إلى نقطة من التوازن تسمح بإقناع كافة الأطراف بأن مصالحهم ومصالح المنطقة سوف تتأثر سلبًا إذا استمرت الأزمة الراهنة، فالحقيقة هى أن هناك فترة زمنية محدودة قبل أن تعود الأزمة الأوكرانية مرة أخرى لتصدر الساحة العالمية.
فى كل ما سبق، فإن مصر تقدم نفسها باعتبارها الدولة الساعية إلى السلام والإصلاح والاستقرار فى المنطقة باعتبار تاريخها، وبقدراتها الدبلوماسية والسياسية على الانتقال من حالة الحرب إلى حالة السلم، التى توفر لشعوب المنطقة فرصة للدخول فى السباق العالمى الراهن نحو التقدم والرفعة.