بقلم - عبد المنعم سعيد
عشت حياتي العملية أو قرابة نصف قرن وهناك التساؤل الدائم عما إذا كان النظام العالمي يتغير أم لا؛ وإذا كان يتغير ففي أي اتجاه؟ كانت هناك تساؤلات مصاحبة لذلك متعلقة بنظامنا الإقليمي في الشرق الأوسط أو المنطقة العربية التي يسميها جماعة منا «الوطن العربي» وجماعة أخرى «العالم العربي» وكفى. الملاحظة التي خطرت كانت أن مثل هذه الأسئلة كانت أكثر إلحاحاً بين العرب في ملتقياتهم ولقاءاتهم عما كانت سائدة في مجتمعات ودول أخرى، حيث كان السؤال يدور في دوائر أكاديمية، وأحياناً بين الساسة بأصوات خافتة. في مناسبات زاعقة مثل الانتخابات في الدول الغربية، فإن السؤال غالباً يكون غائباً، ربما لأنهم في الغرب يعتقدون أنهم لبّ النظام المعاصر الذي التحمت فيه أوروبا مع أمريكا الشمالية، مع فرع بعيد في اليابان وأستراليا.
المعضلة أن إثارة هذه الأسئلة في الإقليم العربي عادة ما تكون مشيراً إلى حالة منذرة بتغيرات مشؤومة تستعيد ذكريات مضت منذ الحرب العالمية الأولى وما صاحبها من اتفاقيات «سايكس بيكو»، وتقسيم المنطقة التي لا تنفك تنقسم منذ ذلك الوقت. وللحق، فإنني لم أكن متأكداً بوجود تكامل أو وحدة إلا تلك التي فرضتها العلاقة مع الخلافة العثمانية أو العلاقات الاستعمارية المختلفة. منذ عقد الستينات ازداد إلحاح السؤال، وتضاعفت سرعته مع كل عقد جديد، وفي اللحظة الراهنة يكون التساؤل حاضراً حتى بدا أن هناك نظاماً عالمياً جديداً ينبت في كل لحظة وعلينا التداول على قسماته وآثاره وعما إذا كان مبشراً بأمور طيبة أو نذيراً بشرور مستطيرة. والإشكالية التي تنبت في كل الأقوال هي أن مفهوم «النظام» يتضمن حالة من التواتر المستقر الذي يمكن التعرف على مدخلاته ومخرجاته؛ وهو في حقيقته يجمع ما بين التغيير والاستقرار.
كل ذلك يدفع فوراً إلى التساؤل عن الكيفية التي تتغير بها النظم الدولية أو الإقليمية، وببساطة متى يكون لدينا نظام جديد يكون ما بعده مختلفاً بشكل ملحوظ عما قبله؟ خلال فترة قصيرة لا تزيد على ثلاث سنوات طُرح السؤال مرتين عندما ألمّت «الجائحة» بالعالم، والآن عندما نشبت الحرب الأوكرانية في أوروبا لكي ترتج لها بقية الدنيا. الإجابة تعود بنا إلى ثلاثة أفكار نظرية عن التغيير، أولها ببساطة عندما تتغير «قوى الإنتاج» بطريقة جوهرية وهي التي تشير إلى نمط «التكنولوجيا» السائدة وما تحدده من علاقات بين بشر ومجتمعات ودول.
النظرية الماركسية جعلت من ذلك حجر الزاوية في التغيير، وهو الفارق ما بين المجتمعات الإقطاعية والرأسمالية والاشتراكية، وهي التي من خلالها الانتقال ما بين الثورات الزراعية والصناعية. وثانيها نسبة التغيير إلى الأفكار بحيث لا تتغير النظم القائمة على فكرة جوهرية حتى يأتي نظام آخر قائم على فكرة أخرى. مفكرون مثل هيغل وضعوا ثقلاً كبيراً للأفكار في تشكيل النظم. الأديان خلقت نظماً عكست اليهود باعتبارهم شعباً مقدساً، والمسيحية التي قامت على تضحية المسيح وافتداء العالم من الخطيئة، والإسلام باعتباره الرسالة الخاتمة لكل الأديان. بين البشر كانت أفكار أفلاطون عن المدينة الفاضلة نظاماً عبّر عن مثاليته في كتاب «الجمهورية» وعمليته في كتاب «القوانين». أفكار الثورات الكبرى الأمريكية والفرنسية التي مجّدت أفكار «العقد الاجتماعي» وجعلت من أفكار جون لوك وروسو ومونتسكيو بمثابة القاطرة التي تقود النظرية الليبرالية في التعامل مع الدول والنظام الدولي. وثالثها كان محافظاً معتمداً على الاستخلاص المباشر من الحياة العامة والبحث عن «القوة» بمعناها الشامل Power بحيث يكون توازن القوى وما يتعرض له من اختلال هو قصة التغيير من حالة إلى أخرى. ويختل التوازن عندما تزيد قوة طرف جديد في العلاقات بين الأمم إلى الدرجة التي تجعلها تقيم توازنات جديدة. هنا نجد تفسيرات للتغييرات تبدأ بميكيافيللي ولا تنتهي بهنري كيسنجر.
النظريات الثلاث تبدو منطبقة ومتداخلة في النظام الدولي الراهن، والإقليمي الذي نعيش فيه. التغيرات في قوى الإنتاج يشهد عليها الانتقال من الثورة الصناعية الثانية التي ارتبطت بالحرب العالمية الثانية، إلى الثورة الثالثة الرقمية والمعلوماتية التي دفعت في اتجاهات العولمة؛ والآن، فإن الثورة الرابعة القائمة على الذكاء الاصطناعي وانتشاره توحي بانقطاع العولمة وعودة الدولة الوطنية وهويتها الواحدة. الأفكار يجسدها الرئيس الأمريكي بايدن عندما يقسّم العالم فكرياً ما بين ديمقراطيين وسلطويين بحيث يشكل كلٌ منهما نظامه الخاص ومعه تحديد التوازن بين فريقين أو كتلتين من الدول. توازن القوى حالياً يبدو مختلاً بسبب الصعود الكبير للصين حتى ولو كان هذا الصعود قد بدأ على أكتاف شركات أمريكية وغربية. النظام الجديد هنا خرج من رحم نظام قديم كان قائماً على قوة وحيدة وقطب واحد لكي يكون ثلاثي الأقطاب أو متعددها. الحرب الأوكرانية الجارية فاصلة في تحديد أشكال وأنواع التوازنات الجديدة.
وكذلك الحال في النظام الإقليمي الذي يعيش العرب في ظله. التكنولوجيا لعبت دوراً كبيراً في بزوغ «الربيع العربي» وثورته على نظم سياسية دخلت في دورات للجمود وتدهور الحال باستخدام «فيسبوك» و«تويتر» وأشكال أخرى للتعبئة والحشد. وباختصار، بات للتكنولوجيا دور في القدرة على التأثير، بحيث كبرت دولة ليس فقط بثروتها وإنما بقدرة قناة تلفزيونية تصل إلى العالم كله وحتى باحتكار مباريات كرة القدم. الأفكار كانت مؤثرة بعد الحرب الثانية بفعل فكرة «القومية العربية» التي جمعت وحدات سياسية ثم عادت وفرقتها، والتي تغيرت الآن بفكرة أخرى عن «الدولة الوطنية» التي تكفل تماسك الدولة. قمة جدة العربية الأخيرة عكست تغيرات في موازين القوى بين قوى كلاسيكية كان لها تأثير منذ الحرب العالمية الثانية، وقوى صاعدة بالثروة والفاعلية والاستخدام الكبير للشباب.