بقلم : عبد المنعم سعيد
بقيت أيام قليلة ويصل الرئيس الأمريكى المنتخب إلى البيت الأبيض؛ وفى زمن آخر كان مثل ذلك مدعاة أولًا للاستمتاع بمظاهر تولى رئيس جديد؛ وثانيًا الاحتفاء بأن الديمقراطية- كنموذج للحكم- تبدو مثالية وطبقًا لما جاء فى الكتب عن الاعتماد على حكمة «الأغلبية» فى انتخاب الأصلح والمناسب لعصره. ما حذر منه «إليكسى توكفيل» فى كتابه عن الديمقراطية الأمريكية من «طغيان الأغلبية»، و«جون ستيوارت ميل» من طغيان الأغلبية تجاه الأقلية قد يكون أكثر سوءًا من طغيان الحكومات؛ لم يجد له صدى كبيرًا فى الفكر الديمقراطى والليبرالى عمومًا.
النظرية العامة لدى النخبة السياسية الأمريكية هى أن الديمقراطية قادرة على تصحيح نفسها مادامت العملية الانتخابية تستمر فى دورانها المنتظم؛ وقبل أسبوع، كانت هذه هى الرسالة التى خرجت من الديمقراطيين الأمريكيين عندما بات على نائبة الرئيس، المرشحة الديمقراطية الخاسرة فى الانتخابات الرئاسية، أن تقود بحكمة تبلغ الكمال التصديق على نتائج الانتخابات فى حلقتها الأخيرة عندما ترأست- كما يقضى الدستور- الاجتماع المشترك بين مجلسى النواب والشيوخ. الديمقراطيون كانوا يريدون التأكيد على نجاح النظرية الديمقراطية، وتلقين الجمهوريين أنهم يحافظون على القانون، وهو ما افتقدوه عندما كان ترامب فى السلطة قبل أربعة أعوام.
ما حدث وقتها كان أن الرئيس الأمريكى فى البيت الأبيض قاد عملية تشجيع المواطنين على مهاجمة مبنى الكونجرس لمنع التصديق على نتائج الانتخابات؛ وفى هذا المسار اعتبر الرئيس ترامب نائبه «مايك بنس» خائنًا للوطن لأنه استمر فى إجراءات التصديق المتعارف عليها، مما حدا بالجماهير إلى المطالبة بشنقه. الأمر كانت له سابقة عندما قام «آل جور»، نائب الرئيس كلينتون، بالتصديق على انتخابات مختلف عليها لكى يكسب الرئيس جورج بوش الابن.
الغريب فى الوقائع الحالية هو أن الرئيس الذى خسر الانتخابات السابقة فاز فوزًا ساحقًا بعد أربعة أعوام رغم ما حدث من قبل من هجوم غير مسبوق سقط فيه ضحايا وصدرت فيه أحكام من محاكم بالسجن؛ وأكثر من ذلك والرجل الفائز يقف أمام القضاء فى حزمة كبيرة من التهم التى أُدين فى 34 جنحة منها، وبقيت عشرات غيرها تتعلق بالوثائق القومية، والأكثر أهمية التدخل المباشر لتغيير الأصوات فى ولاية جورجيا، واستثارة الجماهير ضد العملية الانتخابية كلها باعتبارها مزورة. الشعب الأمريكى رغم ذلك اختار ترامب رئيسًا، بينما تستعد ساحات القضاء لإصدار أحكام جديدة، بعد أن قام المحلفون بإقرار المتهم/ الرئيس مذنبًا. المعضلة فى جوهرها ليست قضائية وقانونية فقط، ولكنها فى القلب سياسية، فالرئيس المنتخب أعلن بوضوح أنه سوف يستخدم سلطاته الرئاسية فى العفو عمّن أدانهم القانون من قبل بالاعتداء على القانون والدستور.
وكأن ذلك ليس كافيًا، فإن الرئيس الذى جعل من الولاء له شخصيًّا الفضيلة التى تختار مَن يعينهم، ومن بينهم «المدعى العام» الذى يقوم مقام «وزير العدل» فى نظم سياسية أخرى بإقامة الادعاء على مَن خرجوا عن طوعه وتصرفوا دون ولاء له فى تهم جديدة على سبيل العقاب. مثال ذلك لم يحدث من قبل حتى خلال «فضيحة ووترجيت» فإن تدخل الرئيس نيكسون فى وظيفة النائب العام كانت محدودة ودافعًا بعد ذلك لإدانته فى الكونجرس وإجباره على الاستقالة. هذه المرة فإن الإدانة لا يمكنها أن تحدث لأنه من المستحيل تكوين أغلبية تحتكم إلى الدستور بينما القاعدة الأساسية للأعضاء الجمهوريين هى الولاء لرئيس الدولة دونالد ترامب.
الحلقة الديمقراطية وتوازن السلطات سوف تكون مصابة بعوار كبير يمنع التصحيح الممكن للعملية كلها؛ ولا يحدث ذلك وفق السوابق عندما يكون التوافق بين الحزبين أساسًا للعملية السياسية على الأقل تجاه القضايا الأساسية للدولة خارجيًّا وداخليًّا. برنامج الرئيس ترامب قائم على درجة كبيرة من التطرف فى الداخل حيث يستعد لطرد ملايين من المهاجرين إلى خارج الدولة؛ وتخفيض الميزانية الفيدرالية بمقدار 2 تريليون دولار، وهو ما سوف يؤثر على الكثير من الحماية الاجتماعية وتوقف الإجراءات الضرورية لمواجهة التغيرات المناخية.
وفى الخارج فإن الرئيس يبشر بضم كندا واستعادة قناة بنما وشراء جرينلاند الخاضعة سياديًّا لمملكة الدنمارك. هذا التوسع الإمبراطورى لم يحدث منذ بلغت الولايات المتحدة ساحلها الغربى على المحيط الهادى عندما قامت بشراء لويزيانا من فرنسا وألاسكا من روسيا وفلوريدا من إسبانيا وتكساس ومناطق أخرى من المكسيك، فضلًا عن عدد من الجزر فى المحيط الهادى. هذه السياسات تخرج كثيرًا على أشكال التوافق الأمريكى، وتدفع إلى حالات تشبه تلك التى جرت أثناء الستينيات وفى أثناء الحرب الفيتنامية.