بقلم : مصطفى فحص
لم تعد أزمة النظام الداخلية خارجية فقط، كما لم تعد أزمته الخارجية داخلية حصراً، ففي أزمته الحالية لم يعد ممكناً فصل الداخل عن الخارج، حيث يتعرض النظام لضغوط داخلية وخارجية تهدف إلى إجباره على تغيير طبيعته في الداخل وتراجعه في الخارج، وعلى الرغم مما يتعرض له من تهديدات سيادية، فقد فشل في إثارة الداخل ودفعه إلى تبني مواقفه في محاولة للتمترس خلف المشاعر القومية، وإظهار التماسك الوطني بوجه مخاطر خارجية، كما ظهر عجز الخارج في حماية بقع نفوذه، فقد تصدع الخارج إلى درجة أربكت الداخل الذي بدأ يطالب علانية بتخفيض الأعباء الخارجية، والتلويح بإمكانية عرضها على طاولة المساومة من أجل حفظ ما تبقى للنظام في الداخل.
إلا أنَّ أزمة النظام تفاقمت عندما لم يُعر صناعُ القرار الدولي الاهتمام للرايات التي رُفعت خلف القائد العسكري لـ«الحرس الثوري» في أثناء مؤتمره الصحافي منذ أيام، فبعد مقتل سليماني ضاقت مساحة المناورة أمام أغلب تلك الفصائل وباتت تواجه أعباء داخل بلدانها أو مناطق انتشارها، بعدما قامت واشنطن، المعنيّ الأول بنفوذ النظام، بتغيير قواعد الاشتباك، ولم تعد تَحصر المواجهة مع الوكلاء، وهددت بالذهاب مباشرةً إلى الأصل، وهي معضلة لم يواجهها النظام منذ تأسيسه.
يمر النظام بضائقة معنوية منذ رده الهزيل على مقتل الرجل الثاني في النظام ومهندس تصدير ثورته إلى الخارج الجنرال قاسم سليماني، فقد كشف الرد عجزه البنيوي في الدفاع عن نفسه، وعن حجم الاهتراء الذي تعاني منه هيكليته السياسية والعسكرية رغم حجم الإنفاق على مشاريعه العسكرية التي كبَّدت الخزينة الإيرانية خسائر هائلة، وتسببت في حصار إيران وفرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة، لكنها باتت أمام الشعب الإيراني بلا جدوى استراتيجية خصوصاً أن واشنطن تنتهج سياسة مخالفة لتلك التي سادت أغلب الصراعات العالمية والتي عبّر عنها نابليون في بداية القرن التاسع عشر، والتي قامت على معادلة محاسبة العدو على إمكانياته لا على نياته، فواشنطن التي تعرف حقيقة الإمكانيات الفعلية للنظام تلاحقه على ما تعدّه نيات عدوانية، بينما تملك قدرات هائلة للرد الساحق على إمكانياته.
في الوقت الذي تمر البنية الاقتصادية لإيران بأزمة عميقة، ضاعف النظام في السنوات الأخيرة من حجم إنفاقه العسكري والاستراتيجي في تكرار لنموذج السوفيات المرتكز على بناء القوة العسكرية بوصفها السمة الوحيدة للقوى العظمى، حيث رأى السوفيات أن السلطة تكمن في فوهة البنادق سابقاً، وفي الصواريخ الباليستية لاحقاً، وهو ما حاولت أن تطبقه طهران، لكن ضمن إمكانية محدودة كشفت أمام أول امتحانٍ فِعْلِيٍّ أنَّها «نمر من ورق» يتجنب الحرب.
هذا المشهد السوفياتي جملةً وتفصيلاً دفع ابنة أحد آباء الثورة الإيرانية وصُناعها الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني، فائزة رفسنجاني، إلى التحذير من انهيار إيران على غرار تفكك دول الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينات القرن الماضي، بعدما اعتمدت سياسات قائمة على السلاح والعسكرة فقط، مشيرةً إلى أن القمع وقتل المحتجين والاعتقالات والسجن للمعارضين ستصل إلى نهايتها يوماً ما ولن تبقى مجدية.
تحذير ابنة رفسنجاني يأتي عشية اعتقال الأمن الإيراني لنجل أحد أبرز زعماء المعارضة الشيخ مهدي كروبي، حسين كروبي، بعد رسالة وجهها والده من مقر إقامته الجبرية إلى المرشد، اتهمه فيها بالفشل في إدارة البلاد وطالبه بالتنحي، على وقع مظاهرات طلابية مستمرة منذ أيام تضامناً مع ضحايا الطائرة الأوكرانية، وأخذت منحى تصعيدياً بعد أن رفع الطلاب شعارات مباشرة ضد المرشد و«الحرس الثوري» وطالبوا بإسقاط كامل المنظومة. رغم أن هذه المظاهرات لم تتوسع بعد كسابقاتها، فإنها حطمت جدار الخوف الذي حاول النظام رفعه بوجه أي محاولات للتغيير من خلال الترهيب عبر عملية القمع المميت التي أسفرت عن سقوط 1500 قتيل.
المتغير الواضح في هذه الاحتجاجات حتى الآن أن النظام يتردد بالعودة إلى استخدام العنف المفرط، حيث يؤكد قائد شرطة طهران أن «الشرطة لم تطلق النار قط خلال الاحتجاجات لأن ضباط شرطة العاصمة تلقوا أوامر بضبط النفس»، وهذا ليس بادرة حسن نيات من النظام، بل تجنب لأمرين: الأول تجنب ارتفاع حدة المواجهة بالشارع كرد فعل على استخدام العنف، والثاني تجنب عقوبات إضافية لوّح بها الرئيس الأميركي الذي غرّد أكثر من مرة بأنه يراقب بانتباه شديد عملية قمع المتظاهرين.
هي المرة الأولى التي يشتبك الداخل مع الخارج، ولم يعد ممكناً للنظام الاستقواء على الداخل بالخارج، وبات الداخل مفتوحاً على الاحتمالات كافة، فلا بنية النظام تساعده على المواجهة وهو أكثر ضعفاً، فيما الشارع يزداد تماسكاً، وما بينهما خارج يتربّص.