بقلم : د. وحيد عبدالمجيد
لو قُدر لفيلسوف الاشتراكية كارل ماركس أن يُبعث من مرقده عدة ساعات لأصابه ذهول حاد بسبب كثير مما سيراه. ولكن أكثر ما سيدهشه هو أن رأس المال المالى الذى أمضى شطراً كبيراً من حياته فى السعى إلى تحليله ووضع نظرية بشأنه يفقد قيمته فى العالم الآن لمصلحة رأس المال البشرى الذى صار هو المصدر الأول للثروة والإنجاز والتقدم.
وكم سيتعجب ماركس عندما يعلم أن بيل جيتس مثلاً لم يكن يملك أى مال، ناهيك عن أن يكون لديه رأس مال، حين بدأ العمل الذى أدى إلى بناء إحدى أكبر الشركات فى عالمنا.
غير أن ما قد يُربك ماركس قبل أن يعود مجدداً إلى العالم الآخر هو مدى انفصالنا فى مصر عن هذا التحول النوعى فى الاقتصاد العالمي، واستهانتنا برأس المال البشرى وقيمته، ومواصلتنا الركض وراء رأس المال المالى فى أنحاء العالم وتقديم تسهيلات جنونية له تصل إلى حد منح أصحابه أراضى مجانية، فضلاً عن الإعفاءات الضريبية المفرطة.
سيجد ماركس مفارقة تاريخية مفادها أن أهمية رأس المال المالى تقل كل يوم فى البلاد الرأسمالية الكبيرة التى وضع فلسفة متكاملة حول ما كان يراه هيمنة رأسمالية واستغلالاً يترتب عليها، فى حين أن البلاد التى كان يخشى غزو رأس المال لها هى التى تبحث عنه وتستجديه عبر ما يُطلق عليه حوافز الاستثمار.
وليس هذا إلا جزءاً من حالة ضياع تمر بها هذه البلاد التى لا تدرك الحكومات المتوالية فيها قيمة رأس المال البشري, ومنها مصر0 فرأسمال البشرى ضائع عندنا نتيجة سياستنا التى تُهدر قيم الكفاءة والابتكار والإبداع، وتُضعف صلتنا بالعلم والمعرفة، وتتعامل مع تدهور التعليم بطرق روتينية قديمة وعقيمة، وتكَّرس أنماط التنشئة التى تُلغى دور العقل وتعتمد على النقل والتلقين، بدءاً بمنع الأطفال من طرح أسئلة غير تقليدية، وتخويفهم من التفكير خارج السياق، ومعاقبتهم إذا أعملوا عقولهم بحرية، ثم تجاهل من يقاومون هذه البيئة المجدية ويعتمدون على أنفسهم فيقرأون ويتأملون وينمون معارفهم بطريقة ذاتية.
وعندما يكون المجتمع المفضَّل هو الأكثر طاعة للحاكم، والأقل قدرة على النقد، يتعذر وجود رأس مال بشرى يأخذه إلى الأمام، ويزداد الركض وراء رأس المال المالى فى أنحاء العالم والإذعان له والخضوع أمامه لعله يرضى ويأتي.