بقلم - مصطفي الفقي
مع الأيام الأولى للعام الميلادى الجديد يحسُن بنا أن نراجع بعض التعريفات التى نستخدمها بلا وعى وبلا تركيز أحيانًا، ومن أمثلتها تلك العلاقة بين ما هو مرحلى وما هو دائم، بين ما هو تكتيكى وما هو استراتيجي، إذ نلاحظ غالبًا أن العقل الشرقى يستغرق فى الإجراءات وقد تغيب عنه السياسات كما تذوب المؤسسة أحيانًا فى شخصية الفرد الذى يقودها، ولكى أكون واضحًا فإننى أقرر ما لاحظته فى تكوين العقل العربى عندما يكون فعلًا أو رد فعل، فهو فى الحالين يلجأ إلى إجراء جديد ولا يغوص أعمق من ذلك فى سياسة مختلفة، ومرجع ذلك يعود إلى اهتمامه بالشكل دون المضمون، والتعلق بالتفاصيل دون الإمساك بتلابيب الظاهرة، والخروج منها بسياسة عامة تسمح بعد ذلك باستدعاء التفاصيل المطلوبة، وليس ذلك جديدًا على العقل العربى المعنيّ غالبًا بالنظرة الصغرى دون الرؤية الكبرى أى بالـ (Micro)قبل (Macro) كما أنه يستغرق فى لغة المونولوج متحاشيًا أسلوب الديالوج ، ذلك لأنه لا يستطيع التسامح مع الرأى الآخر، وقد تسيطر عليه أحيانًا فلسفة القطيع فيجرى وراء إجراءات يتخذها دون التفكير فى سياسات معقولة، والسبب فى ذلك يعود فى ظنى إلى عدد من العوامل أهمها أسلوب التربية ثم نوعية التعليم ثم المناخ العام السائد ثم البيئة الاجتماعية الحاضنة، وهذه العوامل الأربعة هى المحددات المعتادة عند تقويم فكر معين أو التفتيش فى رؤية بذاتها، فأسلوب التربية التى تبدأ من الأسرة وتتأثر بدرجة تماسكها هى المتغير المستقل الذى تتبعه متغيرات أخرى تسهم فى تكوين الشخصية، فما أكثر ما شهدنا من أمثلة، وعرفنا من نماذج تؤكد أن نوعية التربية صارمة حادة أو ناعمة دينية أو واقعية مثالية تحفل بالقيم والعظات وتكتفى بالشواهد الملموسة والظواهر المحسوسة، فتلك كلها عوامل تتشكل بها شخصية الطفل منذ سنواته الأولى، وقد تسهم صرامة أحد الأبوين فى الدفع به نحو اتجاه بذاته ولا تبدو آثاره فى شخصيته إلا بعد أن يستوى على عوده ويصبح شابًا يقبل الحساب الإيجابى والسلبى فى مواجهة المواقف والأحداث، أما نوعية التعليم فحدث عنها ولا حرج فهى الفيصل فى التمييز بين الأشخاص، ولقد لاحظت مثلًا من تجارب عمرى إمكانية تمييز خريج التعليم الدينى عن خريجى التعليم المدنى بعد حوار بسيط معه تنعكس فيه شخصيته الثقافية ولا أفترض تمييز أى منهما على الآخر، لذلك فإن نوعية التعليم تتحكم إلى حد كبير فى جدولة الذهن وترتيب العقل، إن المناخ الذى يسود أركان المجتمع فى مرحلة معينة يكون مؤثرًا فى مكونات العقل الجمعى والإرادة الطوعية، فمناخ العصر الناصرى اختلف تمامًا عن المناخ الذى كان سائدًا فى العصر الملكى بحيث سادت ثقافة لم تكن مطروقة من قبل كما يسود نظام جديد ينعكس على الفرد وعلاقته بالمؤسسة، فحتى المفكرون الكبار اختلفت أساليبهم بعد ثورة يوليو عنها قبلها وأصبحنا أمام مشاهد لم تكن معتادة من قبل خصوصًا ما يتصل بالتوجيه الإعلامى والخطاب السياسى انصرف الناس عن مفهوم السياسات العريضة إلى التفاصيل الصغيرة والإجراءات الجديدة ثم تأتى بعد ذلك البيئة الاجتماعية الحاضنة وهى ممر شائك فى حياة البشر، فالمستوى الاجتماعى ينعكس على العلاقة بين الفرد ومجتمعه الذى يعيش فيه والبيئة التى خرج منها، وقد يقول قائل: إن مسارات الصعود الطبقى قد غيرت ذلك المفهوم السائد عن الارتباط بين المستوى الاجتماعى والعمق الفكري، وقد يكون ذلك صحيحًا ولكن تبقى فى النهاية ظلال لا تزول كأثر للواقع الاجتماعى الذى خرج منه صاحب الشخصية، وهنا تلعب نوعية التعليم مرة أخرى دورًا مهما فى هذا الشأن.. إننى أكتب هذه السطور لكى ألقى الضوء على العلاقة بين الفرد والمؤسسة، بين المواطن والدولة، بين من يخضعون للإجراءات ومن يضعون السياسات، وأدعو بحماس شديد إلى التفكير الشامل الصادر عن الرؤية المتكاملة بعيدًا عن النظرة الجزئية التى لا تُلم بالأطراف المختلفة للقضية الواحدة، وأطالب بإعادة منهجة العقل العربى من خلال العوامل التى سُقناها لكى يصبح معنيًا بالسياسات العامة قبل المضى وراء الإجراءات الفرعية.
إنها سطور تطرق أبواب المستقبل بعد أن اكتشفنا أن الاختلاف بين العقل العربى والعقل الغربى هو عامل مؤثر فى طبيعة الوجود المشترك على أرضية وطنية واحدة بين كل أصحاب الرؤى والأفكار والمواقف، إذ إن توظيف العقل فى خدمة الإنسان لا يتحقق إلا بالانتقال من الدائرة الأوسع إلى الأضيق وليس العكس، فالسياسات هى قاطرة الحياة بينما الإجراءات هى العربات التى تجرها تلك القاطرة المشتركة، إنها قضية العلاقة بين ما هو كلى وما هو تفصيلى من الناحية الموضوعية، وبين ما هو مرحلى وما هو دائم من الناحية الزمنية، وبين ما هو تكتيكى مؤقت واستراتيجى دائم من منظور الرؤية الشاملة التى تحدد المسار وتستشرف المستقبل وترى الضوء فى آخر النفق مهما تكن المصاعب والتحديات، بل والعقبات والمشكلات.