بقلم - مصطفي الفقي
تلقيت باهتمام بالغ كتابًا يحمل إهداء رقيقًا من صديقنا الكبير المناضل المتفرد الأستاذ محمد فايق، الذى شغل مناصب رفيعة فى عصر الرئيس عبدالناصر وارتبط اسمه دائمًا بحركات التحرر الإفريقية، وكان صوتًا مصريًا قويًا فى أنحاء القارة السمراء، الذى أسدى خدمات بالغة لبلده وللقارة والمنطقة كلها منذ أن تخرج فى الكلية الحربية عام 1946 حتى الآن وهو يواصل – أطال الله فى عمره – مسيرته الفريدة فى دعم كل ما هو إيجابى فى حياتنا ومواجهة كل ما هو سلبى حولنا، إن محمد فايق أيقونة بحق وقد قضى فى السجن سنوات عشرا رفض فيها أن يقايض حريته بوثيقة تراجع أو خطاب اعتذار، وما زلت أتذكر جيدًا عندما التقى الرئيس الراحل مبارك - وكنت أعمل معه - أثناء حضورنا يوم إعلان استقلال ناميبيا كيف أن زعيم إفريقيا العظيم نيلسون مانديلا قد ركز فى لقائه معنا على اسم محمد فايق مبهورًا به مقدرًا له، متطلعًا إلى لقائه من جديد، وفى المقدمة الضافية للكتاب التى سطرها صديقى العزيز الدكتور أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية فى جامعة القاهرة والتى عبر فيها عن موقف جيلنا من تلك الشخصية الفريدة، وليس فى ذلك عجب فالطيور على أشكالها تقع، وأحمد يوسف اختيار ذكى لهذه المقدمة لأنه يحمل من المبادئ والأفكار ما يقترب من شخصية محمد فايق ويتناغم معه، ولقد جاء محمد فايق من أسرة طيبة تنتمى إلى مدينة متميزة وهى المنصورة التى درس فيها مرحلة المدارس قبل أن ينضم إلى الكلية الحربية ويسلك الطريق العسكرى فى مواقع عدة، زامل فى أثنائها الرئيس الراحل مبارك والذى كان يحمل له تقديرًا لاحظته شخصيًا فى بعض المناسبات، وأهمية ما كتبه محمد فايق وهو ما كتبته فى مقال سابق أنه حارس أمين على التراث الناصرى، شريك حقيقى فى الجوانب الإيجابية له، وأتذكر المرة الأولى التى التقيت فيها محمد فايق فى منتصف ستينيات القرن الماضى عندما كنت طالبًا فى السنة الرابعة فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ودعاه الاستاذان عبدالملك عودة وإبراهيم صقر للتحدث مع الطلاب عن الدور المصرى فى إفريقيا ولقد بهرنى الرجل يومها بهدوئه الشديد وأدبه الجم ومعلوماته الغزيرة، وأتذكر أنه قال: (إن الرئيس عبدالناصر قد طلب من شركات المحلة الكبرى وكفر الدوار الاهتمام بالنقوش الإفريقية فى الأقمشة التى تنتجها تلك الشركات حتى يتناسب ذلك مع الذوق الإفريقى من حيث الخطوط والألوان)، وكنت ألتهم وأنا أستمع إلى الحديث المظاهر الرصينة فى شخصية ذلك الرجل حيث، كنا جميعًا تقريبًا ناصريين نؤمن بدور جديد للدولة المصرية عربيًا وإفريقيًا ونرى فى تلك الفترة أنها قمة الحلم القومى وشموخ النزعة التحررية والدور الرائد لمصر عبدالناصر، وتبدو أهمية مذكرات محمد فايق بعنوان (مسيرة تحرر) أنها وثيقة صادقة من مصدر مباشر عايش الأحداث وشارك فيها وترك بصمته عليها، لذلك فإن أهمية ما كتب أنه يتضمن بين سطوره وثائق من الدرجة الأولى من حيث مباشرة ما يقال وصدق القائل، وقد تأخر الأستاذ فايق كثيرًا فى إصدار مذكراته لأن الرجل لا يهوى الأضواء ولا تعنيه المظاهر، ولكنه يعمل دائمًا فى خدمة وطنه ومن أجل صالح أمته، وما أكثر ما طالبناه بكتابة مذكراته حتى استجاب مؤخرًا لذلك دون ادعاء بالبطولة، بل لقد أنكر ذاته فى بعض الصفحات وأنا أعلم أنه العمود الفقرى لأحداث فترات لم يركز فيها على دوره وأعطى للعصر وللقائد حق الزهو والاهتمام، إن محمد فايق شاهد ذو تاريخ نظيف على أحقاب مصر السابقة منذ يوليو عام 1952 وحتى الآن، خصوصًا أنه لم يقف عند حدود قضايا التحرر الإفريقى بل تجاوز ذلك إلى العمل الدبلوماسى الواسع والإعلامى الكبير فى عصر كان فيه الإعلام هو الأداة الرئيسية للتحرير والتغيير فعندما تولى منصبه الوزارى كان فى كل الحالات تعبيرًا، أمينًا عن ضمير الأمة وفكر الثورة وأحلام المستقبل، ولقد انحاز دائمًا إلى الحق والعدل وتبنى قضايا الأغلب الأعم من أبناء الوطن الذى خرج من بين صفوفه، وعندما يذكر مانديلا أن موعده مع الوزير المصرى محمد فايق قد تأخر 28 عامًا فإنه يعبر عن حقيقة ما جرى من انتكاسة لبعض حركات التحرر الوطنى إلى أن تحقق لها ما تريد وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من التاريخ المضيء لقارتنا الإفريقية، ولقد ارتبط اسم محمد فايق بكثير من الزعامات الدولية والقيادات الثورية فى مراحل التحرر الوطنى وحصول الدول الإفريقية على استقلالها بدعم قوى من مصر، ومعها عدد من الدول التى تؤمن بالحرية وكرامة الإنسان فى القارتين الآسيوية والإفريقية، كما عرف الوزير فايق أيضًا كبار الأدباء وأشهر الفنانين، والتقى بقطبى الغناء العربى أم كلثوم وفيروز، وكان دائمًا متوازنًا فى علاقاته، محترمًا فى قراراته لا يأتيه الباطل من أى اتجاه، ولكن معركته التى تشدنى أكثر - رغم كل نجاحاته وإنجازاته – كانت هى تلك المرتبطة بجهده فى ميدان حقوق الإنسان ومجال الحريات العامة، حيث اختتم الرجل العظيم مسيرته المقدرة برئاسة المجلس المصرى لحقوق الإنسان وكان دائمًا صوتًا للحق والحقيقة، مدافعًا عمن يحتاجون للدفاع عنهم، مؤمنًا بأن حرية الإنسان هى هويته فى الحياة مهما تكن الظروف والملابسات.. وسوف يبقى محمد فايق فى الضمير المصرى والإفريقى والعربى شمعة مضيئة لا يخبو ضوؤها أبدًا، فهو رمز للتواضع الشديد وإنكار الذات والبساطة فى التعامل مع الآخرين، إلى جانب الأدب الجم والخلق الرفيع والمعرفة الواسعة.. أطال الله فى عمره.