ما زلت أتذكر ذلك القدر من المحرمات التى صنعها وهم الطفولة فى سنى العمر الباكرة، فقد توهمت فى قريتنا أن الباشا الذى يملك لا بد أن يكون أكثر الناس فطنة وذكاءً وعلمًا، وذات يوم دخل عليه أحد مساعديه قائلًا: يا باشا هذا تلغراف تهنئة بالبريد من النحاس باشا زعيم الوفد ورئيس الوزراء، فقال له الباشا: أطلعنى عليه حتى أرى خط النحاس باشا!.
وبطفولتى البريئة قلت فى نفسى- وأنا لم أتجاوز السادسة- إن التلغراف لا يأتى بخط صاحبه ولكن بدقات حروف الجهاز الذى يكتبه. وذات يوم فى أحد أيام الشتاء وكنت عائدًا من زيارة زميل فى الدراسة وكان الشارع خاليًا، فى ليلة باردة وشبه مظلمة رأيت فى طريقى قسيسًا يحمل عصاه الطويلة وقد عرفت بعد سنوات أنه كان القمص بولس عبد الله راعى كنيسة مدينة دمنهور فى خمسينيات القرن الماضى.
فأصابتنى لحظتها رجفة رعب وتخيلت من كثرة ما تم شحنه فينا من خيال مريض وقصص واهية أن رجل الدين المسيحى سوف يؤذينى، مع أن رجال الدين هم بالضرورة دعاة المحبة وأصحاب الكلمة الطيبة، وتأكد لى وقتها أن المجتمع يفرز أوهامًا تستقر فى أذهان الصغار وتسبب لهم الكثير من المخاوف، ونقاط الضعف التى قد تتحول إلى مشاعر قوية وصادقة فى حب الآخرين.
والتخلص من العقد التى زرعتها التربية السيئة فى وجدان الصغار، ولعل ذلك يفسر إلى حد كبير تعاطفى الشديد مع إخوتنا الأقباط، وإيمانى أننا نسيج وطن واحد ولسنا عنصرين كما تردد أغنية سيد درويش الشهيرة، ولقد تحولت هذه الأوهام ومثيلاتها إلى نقاط قوة تعكس تمامًا الرفض الذاتى لما تم شحنه وتفريغه فى عقول الأجيال الجديدة خصوصًا من أبناء القرى أو مدارس الأقاليم.
ولقد كنت طفلًا خجولًا رغم دائرة الأصدقاء المحيطة بى باعتبارى طالبًا متفوقًا ومعروفًا، إلا أن ذلك لم يعالج نقطة الضعف لدىّ حتى كنت أخطب وسط أفواج الدجاج التى تجرى تربيتها فى حظائر المنزل ويفوق عددها المئات، وإذا ارتفع صوتى صائحًا ردد أحد الديكة الصياح وتحركت الدجاجات فى أحد الأركان ربما خوفًا ورعبًا!.
وانتقلت بعد ذلك إلى مرحلة الإذاعة المدرسية فى المرحلة الإعدادية حيث أصبحت متحدثًا معروفًا وإذاعيًا مطلوبًا فى طوابير الصباح وعند المناسبات المختلفة والزيارات المفاجئة للمدرسة الأميرية العريقة فى مدينة دمنهور، واستبد بى فى تلك السنوات حلم الشباب أيضًا فكنت أتمنى ألا يتم إلغاء الطربوش كغطاء رأس وطنى للمصريين.
وألا يتم أيضًا انتهاء العمل بالألقاب الفخرية، وكنت أقول لزملائى الصغار إننى أود أن أصبح مثل الباشا وأن أضع الطربوش على رأسى وأصبح زعيمًا حزبيًا مثل من كنت أسمع عنهم؛ صاحب المقام الرفيع النحاس باشا وأحمد ماهر باشا والنقراشى باشا وغيرهم من رموز الحياة السياسية فى ذلك العصر.
وقد يرى البعض أن تلك أحلام رجعية - وقد يكون هذا صحيحًا - ولكننى ما زلت أرى حتى اليوم أن مصر التى استقرت فترات فى عصر الملكية الدستورية قادرة على الاستقرار فى عهد الجمهورية البرلمانية، وتلك وجهة نظرى التى لا يتفق عليها الجميع، وكنت أتحدث مع نفسى دائمًا فى صمت قائلًا: إن الشكل جزء من المضمون وأن الاهتمام بالمظهر ليس رفاهية ولكنه عناية تلقائية بالجوهر.
وعندما قامت ثورة يوليو عام 1952 وبدأت أغانيها تصدح فى الراديو بأهازيج مثل (عالدوار.. عالدوار) كنت أسمع أبى يشرح لمجموعة من مساعديه الفارق بين ثورة محمد نجيب وهوجة عرابى، ويقول: إن ذكاء ثوار يوليو جعلهم يستبعدون الملك إلى الخارج فكان لهم الحكم.
أما الثوار العرابيون فقد استكانوا وابتلعوا الخديعة فكانت لهم المنافى والسجون، وكنا- أنا وزملائى- سعداء عندما نرسل خطابات بدون طابع بريد للبكباشى جمال عبد الناصر والصاغ كمال الدين حسين وغيرهما من أعضاء مجلس قيادة الثورة فإذا بنا نتلقى من كل منهم صورة شخصية وتوقيعًا نشعر معه أن كلا منا قد أصبح شخصية ذات وزن، وأن له كيانًا معترفًا به حتى من الوزراء ورئيس الحكومة التى تشكلت فى أحضان ثوار 1952.
ولكن حدث ما لم يكن فى الحسبان فى نهاية أربعينيات القرن الماضى عندما انتشر مرض التيفود وزار بيتنا رغم كل احتياطات النظافة، وفقدت شقيقًا صغيرًا كان اسمه (يحيى) وشعرت بحزن طفولى دفين، وما زلت أتذكر منظر جدى وهو يبكى وأمى التى فقدت ابنها تواسيه فى صبر حزين، وأنا أتساءل عن معنى الموت وكيف أن أخى لن يعود.. تلك صفحات مطوية من أوهام الطفولة تسكن فى الوجدان، أما أحلام الشباب فدورها قادم!.