بقلم - مصطفى الفقي
رحل اللواء دكاترة- كما كان يحب أن يلقب- نبيل بباوى بعد حياة حافلة قضاها في خدمة العلاقات الأزلية بين المسلمين والمسيحيين متمسكًا بالنسيج الواحد للأمة المصرية، إنه في ظنى حالة خاصة ونموذج فريد لمواطن مصرى بدأ حياته العملية ضابط شرطة ثم شدته دراسة القانون إلى الغوص في أعماق الشريعة الإسلامية ومبادئ الديانة المسيحية وأدرك الارتباط الوثيق بينهما والأرضية المشتركة التي تقف عليها الديانات الإبراهيمية الثلاث، ولقد اقتربت منه في الثلاثين عامًا الأخيرة وكتبت له مقدمة معظم كتبه وما أكثرها وناقشت إحدى رسائله للدكتوراة بأكاديمية الشرطة في لجنة برئاسة الفقيه القانونى المتفرد أحمد فتحى سرور وعضويتى- أنا- واللواء دكتور محسن العبودى، ومن الطرائف أن الراحل الطيب الكريم قد جاءنى منذ عامين بصور للمناقشة وكانت المفاجأة حضور اللواء عبدالفتاح السيسى مندوبًا عن المشير طنطاوى، كما حضر السفير سليمان عواد سكرتير الرئيس مبارك مندوبًا عنه وتصدر الحضور البابا شنودة الثالث رحمه الله، ولقد شعرت باعتزاز شديد أن اللواء السيسى الذي كان مديرًا للمخابرات الحربية ثم أصبح رئيسًا للجمهورية في ظرف بطولى صعب كان لديه الوقت والاهتمام لكى يكون موفدًا من القائد العام للقوات المسلحة لحضور مناقشة رسالة دكتوراة يقدمها ضابط شرطة كبير في أكاديميتهم التي يعتزون بها متوازية مع أكاديمية ناصر العسكرية بكليتى الدفاع والحرب، كذلك سعدت برفقته لى مع صديقنا المشترك رجل الأعمال والسياحة منير غبور في رحلة طارئة إلى وادى النطرون حيث كان البابا شنودة معتكفًا هناك بعد أحداث (العمرانية) عام 2010.
وتمكنت بحمد الله من إقناعه بالعودة إلى مقره في القاهرة وحضور افتتاح دورة مجلس الشعب حينذاك، وما أكثر ما تعرض له نبيل بباوى من انتقادات ظالمة من الجانبين المسيحى والإسلامى، ورغم أنه كان مخلصًا لعقيدته الأرثوذكسية إلا أن هناك إحساسًا عامًا كان يشير إلى تزيده في الحديث عن التاريخ الإسلامى والربط بين الديانات التي استقرت على أرض مصر الطيبة، وقد استبد به مشروع قومى في سنوات حياته الأخيرة ببناء مجمع للأديان على هضبة المقطم وبالفعل نجح في بناء مسجد رائع وكنيسة بديعة وبينهما مكتبة دون أسوار تفصل بين الوحدات الثلاث إيمانًا منه بالحياة الواحدة والمصير المشترك، ولقد أتم المشروع بكامله تقريبًا وكان ينتظر تشريف الرئيس السيسى أو دولة رئيس الوزراء لافتتاحه إذا سمحت الظروف الضاغطة والارتباطات المتعددة بذلك، وقد كان متقدمًا هذا العام لجائزة الدولة التقديرية من المجلس الأعلى للثقافة فإذا الموت يختطفه قبل أن يحصد شيئًا من نتائج جهده الطويل وإخلاصه المستمر لقضية المواطنة حارسًا لوحدة الكنانة رافضًا الافتراءات على الكتب السماوية والأنبياء والرسل محترمًا الجانب الدينى في شخصية مصر وكيانها المستقل، لقد كان ذلك النموذج المتفرد من أبناء مصر محل تقدير واحترام لسعيه الدائم في الخيرات وكشفه المستمر للأكاذيب والافتراءات فضلًا عن إنفاقه بسخاء على كل ما يخدم أهدافه الأكاديمية ورسالته الوطنية، ولقد تلقيت خبر رحيله من شقيقه فكرى بباوى- وهو عميد متقاعد بالقوات المسلحة المصرية- وقد حدثنى عن رغبتهم في استكمال مشروع شقيقه الذي رحل ورحلت معه مرحلة مضيئة من مراحل الوحدة الوطنية المصرية حيث كتبت نهاية ذلك المصرى الوطنى المحترم فصلًا مشرقًا في تاريخ المواطنة التي تنتصر لوحدة الوطن وتنتفض للأزمات الطائفية التي تبدو غريبة عن الشخصية المصرية، ولقد أسهم نبيل بباوى بكتبه المتعددة وجهوده الصادقة في ترسيخ مظاهر الروح الوطنية في بلد كان هو الأول في اكتشاف فلسفة التوحيد كما أنه هو البلد الذي استقبل الديانات السماوية الثلاث وتعايش مع كل الحضارات وامتزج بكافة الثقافات على مر التاريخ.
رحم الله نبيل بباوى الذي رحل عن عالمنا في ظروف الداء اللعين فلم يأخذ حقه من التكريم حتى تعرف الأجيال الجديدة شيئًا من فضله وبعضًا من جهده، رحمه الله بقدر ما أدى لوطنه حارسًا لوحدته الوطنية ومتمسكًا بنسيجه الواحد.