بقلم - أسامة غريب
بعد ختم الجواز، توجهت إلى سير الحقائب، وهناك رأيت الرجل يقف إلى جوار تروللى وضع عليه حقيبتيه الصغيرتين المملوءتين بالزلط، ثم أبصرته يرفع شنطة ضخمة من فوق السير ويرصها على العربة. وبالرغم من وصول شنطتى، فإننى تسمرت فى انتظار أن أشاهد بقية حمولته.
انتزع بقوة حقيبة كبيرة أخرى ثم مضى فى طريقه إلى باب الخروج مارًا بالبوابة الخضراء للجمارك، التى تعنى أن صاحبها لا يحمل شيئًا بخلاف ملابسه!. توقفت عن السير عندما لمحته وأحد رجال الجمارك يستوقفه.
تظاهرت بأننى أعدل وضع حقيبتى بينما كنت أتابع صاحبنا من بعيد وهو يتحدث مع رجال الجمرك، وتوقعت أن المطار سينقلب رأسًا على عقب بمجرد أن يفتحوا واحدة من حقائبه.. لكن بعد ثوانٍ أشار إليه الرجل بالمرور وشاهدته يدفع عربته ويخرج.
خرجت وراءه إلى الصالة الفسيحة التى تفضى إلى الشارع ورأيته يفرك يديه مسرورًا. كنت مازلت أخشى الاقتراب منه خشية أن يكونوا يراقبونه قبل أن ينقضّوا عليه، لكنه أقبل علىَّ متهللًا وهو يقول: الحمد لله.. مرت بسلام. قلت له: الله يخرب بيتك.. ما هى التى مرت بسلام؟ قال: الحمولة التى معى والتى أراك مذعورًا خوفًا من أن تكون ممنوعات. قلت له: بالضبط.. هذا ما أعتقده. قال: سترى الآن وتعرف كل شىء.
قبل أن يكمل جملته رأيت رجلًا تبدو عليه الملامح المصرية يُقبل نحونا ويُسلّم على الرجل بحرارة ويأخذه بالأحضان ثم يسلم علىَّ ويرحب بى ويدعونى للركوب معهم لتوصيلى إلى فندقى. كانت سيارة الرجل «فان» من النوع الذى يستوعب حمولة كبيرة من الركاب والمتاع. يبدو أنهما لمسا ترددى فى الركوب معهما، لهذا فقد بادر صاحبنا بأن قام بفتح إحدى الحقائب بينما صاحب السيارة يضحك بصوت عالٍ قائلًا: ولماذا هذه الفضائح؟. فتح الرجل الحقيبة وأخرج منها ما يشبه صينية كبيرة من الورق المفضض، ورفع الغطاء عنها فإذا بها مليئة بصفوف متراصة من الكباب والكفتة التى لم تزل مبللة بآثار الثلج!.
فى اليوم التالى، زارنى الرجل فى الفندق وشرح لى الموضوع قائلًا: الحقيقة أننى اعتدت أن أقوم بهذه الرحلة مرة كل شهرين. لقد تعرفت على الرجل الذى رأيته بانتظارى أمس، وهو مصرى مهاجر يمتلك مطعمًا شرقيًا هنا، وقد تعوّد زبائنه على الكباب الذى فشل فى أن يقدمه لهم بمثل طعمه المعتاد فى مصر، لذا فقد اتفق مع مجموعة من أمثالى على أن يأتوا له من القاهرة بحمولة من الكباب والكفتة بعد دفنها فى الثلج، وهو يبيعه لزبائنه المخصوصين بسعر كبير.
كانت دهشتى بالغة وأنا أستمع إلى الرجل الذى أكمل حديثه: صاحب المطعم هذا رجل كريم ويدفع فى الكيلو مبلغًا طيبًا. سألته فى فضول: وماذا لو تم اعتراض الشحنة فى المطار؟. أجاب: هذا احتمال وارد وكاد يحدث أمس لولا لطف الله، لكن البيزنس فى النهاية مخاطرة!.
على كثرة ما رأيت من طرق لكسب العيش، فإن السفر بمائة كيلو كباب مشوى إلى الدنمارك كان أغرب هذه الطرق وأكثرها مدعاة للتأمل!.