بقلم - أسامة غريب
فى لندن كنت أجلس مع مجموعة من الأصدقاء.. خليط من المصريين والإنجليز. كان الراديو يذيع أغنية أخذ الجالسون يتمايلون معها يمينًا ويسارًا، بينما المغنى يشدو بصوت زاعق حتى لتكاد حنجرته تتشقق. قمت بالتركيز مع الأغنية، محاولًا فهم كلماتها ففشلت، مع أنى أجيد الإنجليزية. استطلعت رأى الأصدقاء، لكن كل واحد منهم كان له تصور مختلف عن الآخر، والخلاصة أنهم لم يستطيعوا تفسير معظم الكلمات، وعرفت أن هناك من يلتمس كلمات أغانيه المفضلة فى بعض المجلات أو مواقع الإنترنت المهتمة بالأغانى.
خلصت من هذا إلى أن الموسيقى هى الأساس، أما الكلمات فلا يهم أن تكون عظيمة أو مقفّاة حتى، وأدركت أن كثيرًا من أفراد الجمهور الأجنبى لا يعرف بدقة الكلمات المغنّاة بلغته التى يرددها ويرقص عليها ويراها معبرة عن جيله!. وربما أن هذا الإدراك قد فسر لى ما كان يثير دهشتى من بعض الملحنين والمطربين الموهوبين لدينا عندما كنت أجدهم يقدمون كلمات ركيكة.. أشهر هؤلاء هو بليغ حمدى الذى قدم ألحانًا رائعة على كلمات باهتة محدودة القيمة والأثر، غناها عبد الحليم حافظ وشادية ووردة وغيرهم، والغريب أنها كانت تحقق نجاحات كبيرة فى الحفلات وعلى الأشرطة، وكانت تشغل الناس وتثير وجدانهم على الرغم من ضعف كلماتها وقلة حظها من الشاعرية والإبداع. يثبت أهمية الموسيقى أيضًا وعلوها على الشعر الغنائى أن الأغنيات التى لم يكتف فيها بليغ بالتلحين، بل كتب كلماتها بنفسه وغنتها له ميادة الحناوى ووردة كانت متواضعة ولم ينقذها إلا حلاوة اللحن وأداء المغنى.. ومعروف عن بليغ أنه كانت تجيئه خطرات موسيقية مصحوبة بكلام، فكان يمسك بها ويصنع منها أغنية كاملة أو يضيفها إلى كلمات كتبها مؤلف آخر!.
لا يُفهم من هذا أن الكلمات الجيدة تصنع غنوة غير ناجحة جماهيريًا بالضرورة، لكنى أعتقد أن أجمل القصائد وأحلى الكلمات لا تكفى لصنع أغنية محبوبة، بينما اللحن الحلو يمكنه تجاوز ركاكة الكلمات وتحقيق النجاح وحده. ولو كان للشعر دور أساسى فى الغنوة لرأينا الملحنين يغترفون من دواوين فؤاد حداد وصلاح جاهين وأمل دنقل ومحمود درويش، لكن هذا لا يحدث إلا فى أضيق الحدود، وغالبًا فى المناسبات الوطنية.. ولا يعود هذا التجاهل لعدم وعى الملحن والمطرب فقط، لكن ربما بسبب وعيهما الزائد بأن الكلمات هى آخر عنصر ينبغى الاهتمام به.. وإن كان الأمر لا يخلو من تناقض عندما نرى السادة المطربين لا ينفك أحدهم يتحدث عن دوخته وحيرته فى رحلة البحث عن كلمات جديدة طازجة، مع أننا نرى أن رحلات بحثه فى الغالب لا تسفر إلا عن اختيار كلمات متواضعة، إن لم تكن رديئة.. ولكن ما يجعل البوصلة لا تتحرك فى اتجاه الأشعار الجميلة هو أن اللحن والأداء يخفيان عيوب الكلمات، فتنجح الغنوة التى تخلو كلماتها من المعنى، وربما تكسر الدنيا أيضًا!.