بقلم - أسامة غريب
يعرف الناس فى بلادنا الشاعر جورج غرداق بحسبانه صاحب قصيدة «هذه ليلتى» التى شدت بها أم كلثوم من ألحان محمد عبدالوهاب، ولعل لهذه القصيدة الفضل فى تعريف الجمهور المصرى بهذا الأديب الكبير الذى لم يقتصر إسهامه الفنى على الشعر فقط، لكنه كان مفكراً من طراز فريد، وله مجموعة كتب ودراسات فى الأدب والفلسفة والتاريخ، ومن أعماله: نجوم الظهر وعبقرية العربية ووجوه من كرتون ونغم ساحر وروائع نهج البلاغة.
وقد ظل غرداق يقدم برنامجا فى إذاعة صوت لبنان بشكل منتظم لفترة تزيد على خمسة وعشرين عاما.. لكن أشهر وأهم منتجاته الفكرية كانت الثلاثية التى كتبها عن الإمام على بن أبى طالب تحت اسم: «الإمام على.. صوت العدالة الإنسانية».
وغرداق كما عرّف عن نفسه، فى أكثر من مناسبة، لم يكن متدينا، لكنه كان منحازا للإنسانية بمفهومها الشامل، ومن هنا كانت نظرته لعلى بن أبى طالب، إذ اعتبره شبيها بفولتير وجان جاك روسو ولويس باستير الذين أفادوا بإنجازاتهم العلمية والفكرية كل القوميات على الأرض لا فى بلادهم فقط، كذلك الإمام على من وجهة نظر الشاعر اللبنانى كان من آباء الإنسانية الكبار، وأفكاره ألهمت العالم كله لا المسلمين فقط.
ليست غريبة هذه النزعة الإنسانية والرؤية الموضوعية الشاملة عند شعراء ومثقفى لبنان، وبالذات من أبناء الروم الأرثوذكس، وغرداق أحدهم، إذ إنهم يعتبرون أحفاد الغساسنة العرب والأمناء على التراث الفكرى العربى، بصرف النظر عن الدين والطائفة، ونذكر من هؤلاء بشارة الخورى وجبران خليل جبران وإليا أبوماضى وميخائيل نعيمة.
وقد فاضت أعمالهم بالمحبة والتسامح، ولا ننسى الشاعر إلياس فرحات، وهو المسيحى الذى قال عن رسولنا، عليه الصلاة والسلام: غمر الأرض بأنوار النبوة.. كوكبٌ لم تدرك الشمس علوّه. بينما الكون ظلام دامس.. فتحتَ فى مكة للنور كوة. وعرفنا كذلك الشاعر سعيد عقل الذى كتب: غنيتُ مكةَ أهلها الصيدا.. والعيد يملأ أضلعى عيدا. فرحوا فلألأ تحت كل سما.. بيتٌ على بيت الهدى زيدا.
وعلى اسم رب العالمين علا.. بنيانه كالشهب ممدودا. يا قارئ القرآن صل له.. أهلى هناك وطيّب البيدا. ومعروف أن الأخوين رحبانى قد لحنا هذه القصيدة لتغنيها فيروز، أى أن المؤلف والملحنيْن والمغنية جميعهم مسيحيون.
وأعتقد بحق أن هذه الأصوات الأدبية والفنية المهيبة أسست لوعى وطنى تعدى حدود القبيلة والطائفة والبلد، وفاض على الوطن العربى بآيات المحبة فى زمن لا يمكن القول إنه أفضل الأزمان، والغريب أن هذه الأصوات اللبنانية المُحبة للبشر قد ظهرت فى وطن الطائفية والتعصب والمحاصصة، وإذا كان من فضلٍ للبنان على محيطه العربى فهو ليس لأمراء الطوائف الذين لايزالون يدفعون فى سكة العودة للاقتتال والحرب الأهلية، وإنما الفضل للأصوات التى لم تتبرأ من انتسابها للعروبة فى زمن الخفوت العربى ولم تحتمِ بالسفارات الأجنبية أو تتعيش من المال النفطى.
ولعل السادة الذين منعوا الترحم على الشهيدة شيرين أبوعاقلة يستعيدون القلب الذى مات، والروح التى انطفأت تحت قصف المهاويس الذين أساءوا الظن برب العباد واعتقدوا أنه يخصهم وحدهم!.