بقلم - سحر الجعارة
لماذا تقف على هذه الضفة من النهر بينما الأغلبية تفرض عليك العداء من الضفة الأخرى؟.. أليس الأسهل أن تنضم للقطيع حتى ولو كان مغيباً فكرياً ودينياً، وأن تسلَّم بأن التغيير «مهمة مستحيلة» لن تنجزها أنت وكتلتك التى لا تتجاوز 25%؟ كم عدد التوجهات التى نحتاج إليها لتشكيل توجُّه عام؟ وكم شخصاً نحتاج لتغيير الموقف السائد حول قضية مثل الإجهاض؟ وكم شخصاً نحتاج لتغيير الانتماء الدينى لمجموعة عرقية كاملة؟ ومتى يمكن أن تكون أقليةٌ ما كبيرةَ التأثير بشكل يجعلها قادرة على إحداث تغييرات اجتماعية؟ وما مقدار «الكتلة الحرجة» اللازمة لإحداث تغيير سلوكى وفكرى وثقافى فى المجتمعات المختلفة؟ وما النسبة الكافية لتغيير سلوكيات مثل التحرش الجنسى فى مكان العمل أو العنصرية أو التنمر داخل المؤسسات، بحيث يمكن اعتبار مثل تلك السلوكيات مرفوضة وغير مقبولة؟ تلك الأسئلة وغيرها كانت مدخلاً لدراسة حديثة، أجراها فريق من الباحثين المتخصصين فى علم الاجتماع بجامعة «بنسلفانيا» الأمريكية، مشيرة إلى أن فكرة يتقاسمها 25% من الأشخاص، أى «الكتلة الحرجة»، قد تتحول إلى فكرة تؤمن بها «الأغلبية» أعلم أن مجرد ذكر هذه القضايا له تأثير الصدمة الكهربائية على إنسان دينه وثقافته وعاداته وتقاليده وتاريخه الاجتماعى كله قد يدفعه لرفض التحرش.. وهو نفسه الذى قد يدفعه لرفض الإجهاض.. لأن الإيمان بالتغيير ليس ملزماً بالإيمان بحرية الآخر.. وربما عليك أن تقبل اختلافه عنك تدريجياً .
الدراسة المشار إليها خلصت، نظرياً وتجريبياً، إلى أن «التغيير ليس حكراً على الأغلبية، وأن العديد من المجموعات الصغيرة يمكنها إحداث تغيُّرات جذرية».. سأحاول التوضيح بمثال قريب: فى عز حكم عصابة الإخوان للبلاد، ورغم غضب الشعب المكتوم، ظهرت حركة «تمرد» والتفّ حولها الناس حتى تحولت «الفكرة» إلى واقع بانحياز القوات المسلحة للشعب.. لو تراجع شباب «تمرد» خشية قلة عددهم لربما بقيت مصر تحت الأسر فترة أطول وحين تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى جاء التغيير من «قمة هرم السلطة»، الفكرة التى بدأت بتمكين المرأة كان رمزها «وردة» أهداها الرئيس لفتاة تعرضت للتحرش عشية تنصيبه رئيساً.. ثم رفع عدد الوزيرات ونسبة تمثيل النساء فى البرلمان وأعاد المرأة إلى القضاء ورفع مستوى النساء المهمشات.. كل هذا قامت به «النخبة السياسية الحاكمة» وهى مجموعة صغيرة فى مواجهة كتائب السلفيين والرجعيين.. فيما يمكن وصفه بأنه حرب حقيقية لعدم تمكين المرأة من مراكز صنع القرار ومساواتها بالرجل: (ما أفلح قوما ولوا أمورهم امرأة).
التغيير يستدعى التغيير، فحين تغيرت وضعية المرأة أصبح تصويب الخطاب الدينى فرض عين، وتغليظ قوانين تجريم الختان وزواج القاصرات وما إلى ذلك ضرورة حتمية.. نعم الفكرة الواحدة يمكن أن تتحول إلى ثقافة عامة وتخلق مناخاً حاضناً للنساء ربما من المفيد أيضاً الإشارة فى هذا الأيام إلى «رمزية» زيارة الرئيس للكاتدرائية فى عيد ميلاد السيد المسيح «عليه السلام»، واحتفاله مع مسيحيى مصر بالقداس.. حتى أصبح من عادة المصريين، رغم تنوعهم الدينى والثقافى، الاحتفال بقداس عيد الميلاد على التليفزيون صحيح أن إصلاح الخطاب الدينى لم يتحقق حتى الآن، لأن النخب المثقفة والسياسية الفاعلة لم تتلقف «الفكرة» من رأس النخبة الحاكمة، وربما تحتاج لتشريعات وقوانين أو لتعديل الدستور ذاته.. ساعتها فقط ستتمكن «الكتلة الحرجة»، وهى هنا تيار التنوير، من تحويل «الفكرة» إلى واقع ملموس.