«النهّاش يا علي»

«النهّاش.. يا علي» !

«النهّاش.. يا علي» !

 العرب اليوم -

«النهّاش يا علي»

بقلم - حسن البطل

مرّت السنوية الخامسة على رحيل الشاعر، والصحافي، والباحث.. والزميل علي الخليلي؛ زميلي في "العومدة" بعاموده "أبجديات".
تبادلنا، علي وأنا، ثلاثة أعمدة خلال مرضه، ومنها: "النهّاش.. يا علي" واختار هو آخر أعمدته في "الأيام" عن زيارتي (أو عيادتي) له مرتين.. وكان استقباله لي استثناء رفضه عيادات الأصدقاء.
أعيد نشر عاموده الأخير، مع عنوان عمود لي: "إنه.. النهّاش يا علي" .. وصفت السرطان بأنه "نهّاش"!
***
كنت أتمنّى أن يزورني الصديق والزميل حسن البطل في بيتي قبل أن يعصف بي السرطان اللعين، ويقعدني عن الحركة، كي أتمكن من استقباله بحيوية الجسد المتحرر من العجز، وأطوف به على قدميّ المتوثّبتين في حديقة البيت، كما سبق أن وعدته، أكثر من مرة، في لقاءاتنا القليلة والعابرة، ولعلها النادرة، فلا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، في مقهى رام الله في شارع ركب.

عادني صديقي وزميلي حسن البطل، أخيراً في بيتي، وأنا محاصر بالمرض الوحشي في سريري. وشتّان بين العيادة والزيارة. هذه للمريض كئيبة وحزينة. وتلك للحفاوة المتألقة، والتبسط في متعة الضيافة. كم تألّمت من هذه العيادة. لا أريدها أصلاً. لا أريد أن يراني حسن وغيره من الأصدقاء والزملاء، وكلهم أعزّة ملء حبّة القلب، مخنوقاً في كل هذا العجز والفقدان. تمنيتها زيارة. آه، كم تمنيتها زيارة! كان معه أحد الزملاء الذي لم يسبق لي اللقاء به، وأعتذر الآن عن نسيان اسمه. وإلى جانب سريري يجلس حسن صامتاً، في البدء. كان وجهه باتجاه الزميل، فلا أستطيع مكالمته. ولكنه يكلمني، ويربت بكفه على كتفي المدفون تحت اللحاف. لا أستطيع الحركة، حتى أنني لا أستطيع التقلب ولو قليلاً، ذات اليمين أو ذات الشمال. مع ذلك، تمكنت من بعض الحركة الصغيرة، فالتفت حسن إليّ، وصار بإمكانه أن يقرأ شفاهي. قلت له إن هذا المرض الذي ضرب جهازي العصبي كله، يحاول أن يكسر كل أشكال التحديات، بوحشيته وجنونه. وقلت له إن أصعب ما فيه، وأشده ألماً نفسياً/ سيكولوجيا على الأخص، فقدان المريض قدرته في السيطرة على إمكانيته في الوصول إلى قضاء حاجاته الطبيعية، دون مساعدة الآخرين. ابني الأصغر هيثم على وجه الخصوص، وقد تحمل فيها مسؤولية جديدة عليه، صعبة ومعقدة، لكنه متقبل لها برضا الابن البار بوالديه، والساعي بأقصى طاقته للتخفيف عني وإيثاري بالحب والحنان، وزوجتي سامية التي تغالب أوجاعها هي أيضاً، من أمراض الديسك والنقرس والروماتيزم، كي توفر لي ما في وسعها من رعاية، بحب وصبر. بكيت. بكيت ما أنا فيه. وما أنا عليه. بضع ثوانٍ، وأخفيت دموعي الحارقة في مآقيها المضطربة والمنغلقة على الفلفل والهوان. ينتبه حسن، ويقول لي جملة تهزّني هزّاً من الأعماق. يقول: استلهم القوة من شِعرك يا علي! وعلى الفور، أُحسّ كما لو أنني سوف أنهض من سريري، وأخرج طليقاً مع حسن إلى الحديقة. الشِعر الذي كتبته على مدار أكثر من نصف قرن، هل يحقق المعجزة؟
شعر المقاومة والتحدي والنهوض من الخراب والدمار إلى حيوية العودة للحياة، ضد الموت، وفي مواجهته. شعر الحرية وانتصار الجرح على السكين. شعر الأمل، حين يسيطر العجز على أدق التفاصيل، ويفرض الفقدان نفسه على الأشياء، لتمسح كل هذا الرعب عن الإنسان الثائر والمنتفض، نسمات الأمل، بكلمات ليست هي الكلمات بقدر كونها الوجود الإنساني واثقاً من إرادته في الخلاص من العدم والتلاشي، ومتفوقاً بذاته على أي مناهض له.
ثمة بالتالي، الشعر من جهة، والسرطان من جهة. لن يقبل هذه المعادلة على أي حال، سوى الشعراء أنفسهم، أو بعضهم، وهم البعض الأقل. ولكنني أقبلها. وأحسب أن قبولها في الرؤية الأكثر شمولاً، على المدى الطويل، لا بد أنه كامن في كل الناس. فليس من أحد على الأرض، لا يؤكد على مدار الساعة، رغبته عبر استلهام القوة في التحدي وفي المقاومة، وهو استلهام متجدد ومتطور لا يتوقف عند حد، لشعلة الروح التي هي شعلة الشعر.
وفي فضاء هذه الشعلة، سوف تتم الزيارة في يوم قادم، يا حسن. ليست نبوءة ولكنه الأمل.

 

arabstoday

GMT 15:19 2019 الأحد ,08 كانون الأول / ديسمبر

لماذا كل هذه الوحشية؟

GMT 15:17 2019 الأحد ,08 كانون الأول / ديسمبر

عن حماس وإسرائيل ... عن غزة و"الهدنة"

GMT 15:21 2019 الجمعة ,06 كانون الأول / ديسمبر

لجان الكونغرس تدين دونالد ترامب

GMT 08:31 2019 الجمعة ,22 شباط / فبراير

موازين القوى والمأساة الفلسطينية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«النهّاش يا علي» «النهّاش يا علي»



منى زكي في إطلالة فخمة بالفستان الذهبي في عرض L'Oréal

القاهرة ـ العرب اليوم
 العرب اليوم - حزب الله يعلن قصف مستعمرة إسرائيلية بـ50 صاروخاً

GMT 04:29 2024 السبت ,28 أيلول / سبتمبر

الجامد والسائح... في حكاية الحاج أبي صالح

GMT 08:22 2024 الجمعة ,27 أيلول / سبتمبر

الهجوم على بني أميّة

GMT 04:32 2024 السبت ,28 أيلول / سبتمبر

اللوكيشن
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab