بقلم - حسن البطل
١ - حروف الذلاقة
نختار لكم قبساً من الاجتهاد في الألسنية الذي تولاه الإمام فخر الدين الرازي، المتوفى 606 هـ، عظّم الله أجره، ونفعنا بعلمه.
ما نختاره لكم هو من كتيبه القيّم: «نهاية الايجاز في دراية الاعجاز»، والكتاب من جملتين ـ حسب التعبير القديم ـ أي من جزأين، وهو يتركز على تبين مكامن الفصاحة إن في مفردات الكلام؛ أو في جملته، مطرياً على اجتهاد سلفه شيخنا علي ابن عيسى، الإمام في العربية، المتوفى 384هـ، الذي ـ بدوره ـ استشار النحاة، فاتفقوا على أن مخارج الحروف في العربية ستة عشر.
2 ـ ذلاقة النطق والمنطق
نقل عالمنا الرازي عن عالمنا الخليل (بن أحمد الفراهيدي) ما يلي: «الذلاقة في المنطق إنما هي بطرف أسلَة اللسان، وذَلق اللسان (هو) بحدّي طرفيه، كَذَلق السنان».
يفيدنا اجتهاد عالمنا القديم في تفسير جريان بعض الأسماء والتراكيب الأجنبية على ألسنة العامة من الناس. فالإمام فخر الدين الرازي (محمد بن عمر) بحث في فصاحة مفردات الكلام، فوجد هذه المتسلسلة: دلالة اللفظة على المعنى. بلاغة المفردة. مدى ارتباط المفردة بالدلالات الوضعية للألفاظ.
وقال: إلى ذلك، فإن الفصاحة اللفظية قد تكون في مخارج الحروف. وقال: «ولا ينطلق شباة اللسان إلاّ بثلاثة أحرف، وهي: التاء، اللام، النون. فلهذا، تسمى هذه: «حروف الذلاقة» وتلحق بها الحروف الشفهية، وهي ثلاثة أيضاً: الفاء، الباء، الميم.
والآن ـ يا عزيزي القارئ ـ هلاّ لفظت «تلفزيون» فعلمت لماذا فشل مجمع اللغة العربية في استبدالها بلفظة «مرناة» من: رنا، يرنو.
أيضاً، يفسر لك ذلك هذا التوازن غير المحسوم بين لفظتي: «تليفون» و»هاتف»، حيث اللفظة الأعجمية تحوي ثلاثة من أحرف الذلاقة بينما تحوي «هاتف» حرف ذلاقة واحداً، وآخر حرف شفاه وهو «الفاء». وسنرى ان علة لفظة «هاتف» في ابتدائها بحرف «الهاء».
ثم قال: «ولما ذَلَقت هذه الحروف الستة، ومذل بهن اللسان، وسهلت عليه في المنطق (النطق)، كثرت في أبنية الكلام. فليس شيء من بناء الخماسي التام يعرى منها. فإن وردت عليك كلمة خماسية أو رباعية معراة من حروف الذلق، ومن الحروف الشفهية، فاعلم: ان تلك الكلمة محدثة مبتدعة، ليست من كلام العرب».
وقال، أيضاً: «العين والقاف لا يدخلان في بناء إلا حسّناه، لأنهما أطْلَق الحروف. فأما «العين» فأنصع الحروف جرساً، وألذها سماعاً. أما «القاف» فأمتن الحروف وأصحها جرساً. فإذا كانتا ـ أو إحداهما ـ في بناء (مفردة) حَسُن البناء لنصاعتهما. فإن كان البناء (المفردة) اسماً لزمته الـ «سين» والـ «دال»، مع لزوم الغين والقاف، لأن «الدال» لانت عن صلابة «الطاء» وكزازتها، وارتفعت عن خفوت «التاء» فحسُنَتْ، وصارت حال «السين» بين مخرج الـ «صاد» والـ «زاي» كذلك.
وقال في «الهاء»: تحتمل في البناء للينها وهشاشتها، إنما هي نفس لا اعتياص منها.
وحسم فخر الدين الرازي رأيه بعد قبول اجتهاد غيره، فقال: «هذه الاعتبارات لا بد من رعايتها (في النطق) ليكون الكلام سلساً على الأسلات، عذباً على العذبات، وهي كالشرط للفصاحة والبلاغة».
3 ـ تركيب الحروف
من شروط الفصاحة ـ يقول الرازي ـ تركيب الحروف، وأن يكون التركيب معتدل المزاج. فإن من التراكيب ما يكون متنافراً جداً كقول الشاعر:
«وقبر حرب بمكان قفر - وليس قرب قبر حرب قبر»، فلا يستطيع واحد أن ينشد هذا الكلام ثلاث مرات، فلا يتتعتع ولا يتلجج. والسبب في هذا التنافر: القرب القريب لمخارجها، فيحتاج الناطق الى حبس الصوت زمنين متلاصقين فلا يظهر الحرف الأول.
* * *
وهكذا، عزيزي القارئ، فإن الفصاحة تكون في «اللسان القويم» كما قالوا، وأما البلاغة فهي في تراكيب المفردة تلو المفردة ليكون القول بليغاً.. مثلما قال ذلك الأعرابي عندما سألوه رأياً في خلاف بين علماء اللغة: «يحدثوننا بلساننا في لساننا.. بما ليس من لساننا».