الخرائط الممزَّقة وزمن الفصائل

الخرائط الممزَّقة وزمن الفصائل

الخرائط الممزَّقة وزمن الفصائل

 العرب اليوم -

الخرائط الممزَّقة وزمن الفصائل

بقلم - غسان شربل

يتجادل الليبيون حول موعد الانتخابات، ويحاول العالم إقناعَهم بأنها الدواء الوحيد لمرض التشرذم الذي أصاب البلاد، لن تكون الرحلة سهلة بالتأكيد، وليس سهلاً ترميم الخرائط بعد أن تتمزق بين الفصائل والعقائد والجهات والأعلام الأجنبية ورجال المرتزقة. تبدأ القصة بثوار غاضبين وتنتهي ببيادق تكافح للحصول على مصالحها وأدوارها في ألعاب الآخرين.
لا مبالغة في القول إن المستبد المولَع بصورته يعاقب بلادَه مرتين: الأولى حين يحكمها والثانية حين تفر أشلاؤها من قبضته. ولا يحق لنا الإفراط في الحديث عن بوكاسا وعيدي أمين وغيرهم، وقد عرفنا من هم أقسى منهم وأشد هولاً.
كان عبد المنعم الهوني شريكَ معمر القذافي في «ثورة الفاتح» قبل أن تفترق الطرق. سألته ذات يوم إن كان القذافي يعتبر نفسه قائداً تاريخياً فأجاب: «إنه متأكد. أكثر من ذلك، إنه يعتقد أن العناية الإلهية أرسلته. أنا لا أبالغ، فهذه حقيقة مشاعره، وأقواله تؤكد هذا الجنوح لديه. كان يضرب مثلاً شديد الدلالة، كان يقول إن المشركين كانوا يهزؤون من سيدنا نوح حين كان يعد المركب ويتندرون حول ما يقوم به، ويضيف أن من كانوا مع نوح في المركب هم الذين نجوا حين جاء الطوفان، وهلك الذين كانوا يضحكون منه».
ما أصعبَ لملمة الخرائط بعد تمزقها! لا يكفي الاحتكام إلى صناديق الاقتراع لضمان قيام دولة طبيعية. يعيش عراق ما بعد صدام حسين كمن يمشي على حبل مشدود، الخطوات بطيئة وقلقة وخطر السقوط واردٌ في أي لحظة، والاحتكام المتكرر إلى صناديق الاقتراع لم يتمكن من إعلان ولادة دولة طبيعية تستطيع مؤسساتها جبهَ التحديات بقواها الذاتية. وفي فترة ما بعد الغزو الأميركي تعرض العراق لعملية نهب هائلة أدت إلى تصنيف مليارات الدولارات الفارة في خانة المفقودة. في موازاة عملية النهب تمزقت التركيبة العراقية على وقع ممارسات كيدية اتخذت أحياناً طابعاً مذهبياً فجاً بلغ أحياناً حد تغيير ملامح مناطق وتهجير سكان والاستيلاء على أراضيهم.
التمزق الذي أصاب التركيبة العراقية وفر أرضاً خصبة لمختلف أنواع التدخلات الدولية والإقليمية. نجحت إيران في حجز الموقع الأول في الوصاية على القرار العراقي. تجاوزت قدرتها ممارسة حق النقض على ما يعارض سياساتها وحساباتها لتصل إلى حد إعادة صياغة المعادلات والملامح. والحقيقة أن هشاشة الوضع الداخلي حولت العراق ورقة تعكس صدى اختبارات القوة بين واشنطن وطهران. من يتابع ما تعيشه بغداد يدرك أنها لا تزال تدفع ثمن ذلك القرار الأرعن الذي اتخذته واشنطن حين قررت الخروج في حملة تأديب متهورة رداً على «غزوتي نيويورك وواشنطن».
كان الغزو الأميركي للعراق جريمة شكلت احتقاراً صارخاً لمبادئ الشرعية الدولية. وأظهرت مجريات الغزو أن الولايات المتحدة التي تملك آلة استخبارية هائلة، وجيشاً من مراكز الأبحاث عجزت عن فهم خصوصيات البلد الذي غزته وحساسيات تركيبته. يضاف إلى ذلك أن أميركا التي فككت «دولة صدام» لم تسهم في تسهيل قيام الدولة البديلة بل فعلت العكس.
اقتلعت الحرب الأميركية نظام صدام حسين، واقتلعت في الوقت نفسه توازنات تاريخية في المثلث الإيراني - العراقي - التركي، وهو مثلث محكوم بذاكرة مثقلة. لم يكن سراً أن العراق هو الضلع الأضعف في المثلث، ولم تكن إيران الشاه تخفي رغبتها في لعب دور الشرطي في المنطقة. أما إيران الخميني فقد ذهبت أبعد من ذلك، حيث اعتبرت أن من حقها رسم ملامح العراق المقبل. وقد وصل بها الأمر حد إدارة بغداد من طهران، ولم يكن سراً أن مفتاح الدخول إلى مكتب رئيس الوزراء في العراق موجود في طهران، وكان واضحاً أن من تعاقبوا على ذلك المكتب بعد إطاحة صدام حصلوا على جواز مرور من قاسم سليماني. وتركيا أيضاً تعتبر خريطتها الحالية ثوباً ضيقاً حين تتذكر ماضيها الإمبراطوري. أما رغبتها في التدخل في العراق فتتجاوز بالتأكيد حرصها على تعقب مقاتلي «حزب العمال الكردستاني»، هذا الشعور بالقلق من الجارين الإيراني والتركي عمق لدى «البعث» العراقي الرغبة في بناء جيش ضخم على قاعدة الاستعداد للحروب أو اختبارات القوة. ولم يتردد شاه إيران في تحريك الورقة الكردية داخل العراق لإرغام بغداد على تقديم تنازلات قبلها صدام مضطراً في «اتفاق الجزائر» الذي سيكون لاحقاً من بين أسباب اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية.
كان معمر القذافي مريضاً وتوهم أنه قادر على تغيير العالم، لكن لا يمكن الاستمرار في تعليق كل المآسي على مشجب القذافي. الأمر نفسه بالنسبة إلى العراق وصدام حسين، لا بد من الالتفات إلى مسؤولية اللاعبين الحاليين، ولا بد من التوقف عند مسؤولية الفصائل التي تؤمن بالقنابل أكثر مما تؤمن بصناديق الاقتراع وتؤمن بالقوة أكثر مما تؤمن بالقانون. الفصائل التي تعتبر الدولة وليمة من حق القوي نهب خزائنها بلا رحمة، والفصائل التي تتقاسم الدولة ومؤسساتها، كما يتم الاستيلاء على أملاك يتيم لا سند له، الفصائل التي تعتبر الدستور مجرد ورقة تين يمكن استخدامها لخداع السفراء والزوار الأجانب، الفصائل التي تعتبر التغيير مؤامرة يستحسن أن تعالج سريعاً بكواتم الصوت والجرائم الغامضة التي لا تجرؤ المحاكم على فك أسرارها.
ما أصعبَ لملمة الخرائط بعد انفراط عقدها! لم يعرف لبنان حاكماً من قماشة معمر القذافي أو صدام حسين، ولم يتذوق لذة الإقامة في كنف قائد لا نديم له إلا التاريخ، لكن الفساد والامتناع عن بناء الدولة وشهوة الأدوار والبيادق كلها أسهمت في تمزيق الخريطة ودفعت اللبنانيين إلى الجحيم. يتجه اللبنانيون نحو أكثر من انتخابات خلال السنة الحالية، وتجاربهم السابقة مع هذا النوع من العقاقير لا تشجع، ما أصعبَ ترميم الخرائط في زمن الفصائل!

arabstoday

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

GMT 06:11 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

اكتشافات أثرية مهمة بموقع ضرية في السعودية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الخرائط الممزَّقة وزمن الفصائل الخرائط الممزَّقة وزمن الفصائل



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 20:44 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
 العرب اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 20:58 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الأميركي يقصف مواقع عسكرية في صنعاء

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

موسكو تسيطر على قرية بمنطقة أساسية في شرق أوكرانيا

GMT 14:19 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إلغاء إطلاق أقمار "MicroGEO" الصناعية فى اللحظة الأخيرة

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

وفاة جورج إيستام الفائز بكأس العالم مع إنجلترا

GMT 17:29 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

سائق يدهس شرطيا في لبنان

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إصابات بالاختناق خلال اقتحام الاحتلال قصرة جنوبي نابلس

GMT 07:06 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مقتل 6 في غارة إسرائيلية على مدرسة تؤوي نازحين بغزة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab