طرأ تطور على الأرض في اليمن وذلك منذ دخول قوات لواء "العمالقة"، وهي قوات في معظمها جنوبيّة، على خط المواجهة مع الحوثيين. حصل في الأسابيع القليلة الماضية تقدّم في محافظة شبوة، خصوصا منذ إزاحة محافظها الذي ينتمي الى الاخوان المسلمين وحلول شخص آخر مكانه. ينتمي المحافظ الجديد لشبوة الى المؤتمر الشعبي العام، الحزب الذي اسّسه الرئيس الراحل علي عبدالله صالح. لا يزال معظم هذا الحزب مواليا لعلي عبدالله صالح، على الرغم انّه انتقل من هذا العالم.
لم يحصل تقدّم على حساب الحوثيين في شبوة فحسب، بل خفّ الضغط على مدينة مأرب التي سعى الحوثيون (جماعة انصار الله)، ومن خلفهم ايران، الى السيطرة عليها. كان الهدف الحوثي استكمال إقامة كيان سياسي، قابل للحياة، يمتد من مأرب الى مدينة الحديدة ومينائها ذي الاهمّية الاستراتيجية الكبيرة على البحر الأحمر.
لا يمكن اعتبار ما حدث، في مجال وضع حدّ للاختراقات الحوثيّة في شبوة، حدثا عاديا بمقدار ما انّه تبدّل كبير في سياق افشال المشروع الإيراني في اليمن أيضا. اخذ المشروع الايراني بعدا جديدا منذ استيلاء "انصار الله" على صنعاء في 21 أيلول – سبتمبر 2014، بتواطؤ مع الرئيس الانتقالي عبد ربّه منصور هادي، ثم قتلهم علي عبدالله صالح في جريمة موصوفة في الرابع من كانون الاوّل - ديسمبر 2017.
يتجاهل الذين يصرّون على تجاوز سير الاحداث والربط بينها، أنّ الحوثيين، الذين ما زالوا إلى اليوم يطلقون صواريخ ومسيّرات في اتجاه الأراضي السعوديّة، سارعوا منذ اليوم الاوّل لوضع يدهم على صنعاء إلى التوسّع في كلّ الاتجاهات. عزّزوا مواقعهم في تعز. الاهمّ من ذلك كلّه انّهم تصرفوا كدولة مستقلّة ذات سيادة. لذلك عقد الحوثيون اتفاقا في شأن الرحلات الجويّة المباشرة بين طهران وصنعاء من جهة واجروا مناورات عسكريّة في منطقة قريبة من الحدود مع المملكة العربيّة السعوديّة من جهة أخرى. لجأوا الى هذا التحرّك مع حصولهم على مباركة الرئيس الانتقالي والأمم المتحدة. حضرت الأمم المتحدة، عبر جمال بنعمر مبعوث الأمين العام، الاحتفال بتوقيع "اتفاق السلم والشراكة" بين "جماعة انصار الله" و"الشرعيّة".
في مرحلة معيّنة، مباشرة بعد سقوط صنعاء، بلغ الحوثيون عدن التي أُخرجوا منها لاحقا كما طُردوا من ميناء المخا، المشرف على باب المندب. تبجحوا، قبل طردهم من المخا، بانّه بات في استطاعتهم اغلاق باب المندب. معنى ذلك ان "الجمهوريّة الاسلاميّة" في ايران ارادت التحكّم بحركة الملاحة في البحر الأحمر وفي قناة السويس. فباب المندب ممرّ اجباري لايّ سفينة تريد دخول البحر الأحمر وبلوغ قناة السويس.
ما يمكن قوله الآن ان الوضع اليمني دخل مرحلة جديدة مختلفة. لم يتلق المشروع الإيراني ضربة قاصمة، لكن الأكيد انّه امكن وضع حدّ لتقدّمه مع دخول الحوثيين حرب استنزاف ليست معروفة النتائج. يحدث ذلك كلّه في وقت بات واضحا ان القوات التي على رأسها طارق محمّد عبدالله صالح صامدة على جبهة الحديدة وقد حالت، مع قوات أخرى بقيادة هيثم قاسم (وزير الدفاع السابق) دون أي تقدّم حوثي في المنطقة الساحليّة.
في ضوء كلّ هذه المعطيات، يتبيّن بوضوح ليس بعده وضوح انّ "الشرعيّة" التي يتحكّم بها الاخوان المسلمون، من الناحية العسكريّة، احتاجت الى "العمالقة" كي تسترجع مواقع في شبوة وكي تحول دون سقوط مدينة مأرب. ما لعب أيضا دورا في تراجع الحوثيين سلاح الجوّ التابع للتحالف العربي الذي وجه الى هؤلاء ضربات محكمة استهدفت نقاطا عسكريّة ذات طابع استراتيجي وحيوي للمجهود الحربي الايراني.
ثمّة عوامل أخرى عدّة لعبت دورها في التراجع النسبي للحوثيين. من بين هذه العوامل إعادة نظر واشنطن في موقفها من "جماعة انصار الله" بعد دخولهم حرم السفارة الأميركية في صنعاء واحتجاز عدد من الموظُفين المحليّين فيها. مثل هذا التصرّف غير مقبول اميركيا ويذكّر إدارة بايدن باحتجاز ايران لديبلوماسيي السفارة الأميركية في طهران في خريف العام 1979!
في ظلّ كلّ هذه المعطيات التي تشير، بين ما تشير، إلى تغيير على الأرض وهو تغيير في المفهومين العسكري والسياسي، ليس مستبعدا سعي ايران الى استعادة المبادرة في اليمن. ترى "الجمهوريّة الاسلاميّة" في اليمن ورقة قويّة غير مكلفة كثيرا. تستخدم هذه الورقة في ابتزاز دول الخليج العربي وفي مساومات مع الولايات المتحدة في مفاوضات فيينا المرتبطة بملفّها النووي. اكثر من ذلك، إن اليمن بات موطئ قدم لإيران في شبه الجزيرة العربيّة، تماما كما كان اليمن الجنوبي حتّى أواخر ثمانينات القرن الماضي موطئ قدم للاتحاد السوفياتي في المنطقة.
يحتاج التغيير على الأرض اليمنيّة الى تغيير سياسي مواكب له أيضا. اذا دلت احداث الأسابيع الماضيّة، بما في ذلك حرب الاستنزاف بين الاخوان المسلمين والحوثيين، على شيء فهي دلّت على حاجة الى إعادة تشكيل "الشرعيّة". هناك قوى جديدة برزت على ارض الواقع ولعبت دورها في منع سقوط مأرب. لا يعني ذلك ايّ تجاهل لدور التحالف العربي وسلاح الجو التابع له. لكنّ الثابت انّ "الشرعيّة" لم تستطع في ايّ وقت المساهمة في لعب دورها وذلك منذ استيلاء الحوثيين على صنعاء، بل قبل ذلك بكثير. الدليل على ذلك انّ عبد ربّه منصور صرف بعد توليه الرئاسة لمرحلة انتقالية (حددت مدتها بعامين) كلّ وقته في تصفية حسابات مع علي عبدالله صالح والتحريض عليه. لم تكن لديه يد لا في تحرير عدن ولا ميناء المخا من الحوثيين. على العكس من ذلك، اعتقد ان في استطاعته استخدام "جماعة انصار الله" قبل ان تضعه هذه الجماعة في الإقامة الجبريّة، مباشرة بعد توقيع "اتفاق السلم والشراكة" في صنعاء. تبيّن ان الحوثيين، وهم أداة ايران، استخدموا الرئيس الانتقالي الذي لم يتمكّن من استخدامهم يوما...
ستكون المرحلة المقبلة في اليمن مرحلة تحديات عسكريّة وسياسيّة في الوقت ذاته. يصلح التساؤل هل يمكن البناء سياسيا على ما تحقّق وما قد يتحقّق عسكريا... ام أنّ افق المرحلة الجديدة حرب استنزاف ستستمرّ طويلا؟