أسوأ ما في لبنان غياب الدولة التي رفضت في يوم من الأيام تحمّل مسؤولياتها. لا تعترف الدولة اللبنانية، على سبيل المثال وليس الحصر، بمسؤولية الطرف اللبناني عن رفض تنفيذ القرار 1701 الذي وضع حدّاً لحرب صيف 2006. تهرب الدولة اللبنانية، أو ما بقي منها، من الاعتراف بأن «حزب الله» لا يريد تنفيذ القرار. لم يرد ذلك يوماً لأن الاحتفاظ بسلاحه هو الأهم بالنسبة إليه من جهة، فيما خدمة المشروع الإيراني هدفه الأول والأخير من جهة أخرى.
حصل فشل لبناني في ثلاث محطات مهمّة تتعلق كلّها بالجنوب. كانت المحطة الأولى انسحاب إسرائيل في مثل هذه الأيّام من العام 2000، والثانية صدور القرار 1701 صيف 2006، والثالثة اندلاع حرب غزّة، قبل نحو 240 يوماً، وربط لبنان مصيره بها.
كانت للبنان، ولاتزال، مصلحة في تنفيذ القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. في حال تنفيذ القرار بحذافيره، سيوفّر لبنان على نفسه الكثير. لكن السؤال في هذه المرحلة بالذات وبعد ربط لبنان نفسه بحرب غزّة، غصباً عن رغبة أكثريّة أبناء الشعب اللبناني، هل يكفي تنفيذ القرار 1701 كي تحصل معجزة ويستعيد لبنان عافيته... أم بات المطلوب قراراً شجاعاً من نوع آخر في مستوى الحدث الذي ستكون له انعكاساته على المنطقة كلّها؟
يحتاج القرار، الذي هو من نوع آخر، إلى اعتراف بالخطأ انطلاقاً من واقع على الأرض. يعني ذلك، بكل بساطة الاعتراف بأن تفادي تنفيذ القرار 1701، وصولاً إلى ربط البلد بحرب غزّة، تتمة أكثر من منطقيّة للعبة أتقنها «حزب الله» وذلك منذ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في 25 مايو من العام 2000.
يظلّ السؤال المطروح في كلّ وقت: هل استفاد لبنان من الانسحاب الإسرائيلي الذي يقول «حزب الله» أنّه كان وراءه قبل 24 عاماً؟ الجواب بالنفي، لا لشيء سوى لأن لبنان لم يستغل الانسحاب الإسرائيلي من أجل جعل تنفيذ إسرائيل للقرار 425 الصادر في العام 1978 يصبّ في مصلحته وفي مصلحة أهل الجنوب. على العكس من ذلك، كان فرصة أخرى أضاعها لبنان الذي يبدو أنّ هناك إصراراً سوريّاً ثم سوريّاً – إيرانياً، ثمّ إيرانياً في المطلق على بقاء الجنوب «ساحة» تستخدم لأغراض غير لبنانيّة.
بين العامين 2000 و2024، زاد الوضع اللبناني سوءاً. بدل أن يكون الانسحاب الإسرائيلي بمثابة فتح لصفحة جديدة في تاريخ البلد، حصل العكس من ذلك. لدى حصول الانسحاب الإسرائيلي. كان هناك خياران أمام لبنان. كان هناك في الواقع خيار بين تحصين البلد والعمل على استعادة أي أرض لبنانيّة مازالت محتلة بالوسائل الديبلوماسيّة، وكان هناك سعي إلى إيجاد مسمار جحا. كان ذلك عن طريق خلق قضيّة مزارع شبعا، لتبرير بقاء «حزب الله» ميليشيا مسلحة تنفذ المطلوب منها إيرانياً في لبنان.
رضخ لبنان لسلاح «حزب الله». لا يزال يدفع ثمن هذا الرضوخ الذي يرمز إليه عهد إميل لحود، الذي وصل إلى رئاسة الجمهوريّة بسبب اعتراضه في العام 1993، عندما قائداً للجيش على انتشار الجيش في الجنوب. كوفئ إميل لحود على شكواه من انتشار الجيش اللبناني في جنوب لبنان بأن صار في العام 1998 رئيساً للجمهورية. كوفئ بعد ذلك ميشال عون، وصار بدوره رئيساً للجمهوريّة بعدما تولى طوال ما يزيد على عشرة أعوام، بين 2006 و2016 توفير غطاء مسيحي لسلاح الحزب وارتكاباته. أمضى ميشال عون ست سنوات في قصر بعبدا كجائزة له على نجاحه في كلّ الامتحانات التي مرّ بها بين 2006 و2016.
علاوة، على ما ارتكبه ميشال عون وصهره جبران باسيل، منذ توقيع وثيقة مار مخايل في السادس من فبراير من العام 2006. لم يكن لدى القائد السابق للجيش اللبناني سوى همّ استرضاء الحزب وسلاحه وتوفير الغطاء المطلوب كي يبقى لبنان مجرّد مستعمرة إيرانيّة تفعل فيها «الجمهوريّة الإسلاميّة» ما تشاء ساعة تشاء.
ما يشهده لبنان في أيامنا هذه تتويجا لفشل في المحطات الثلاث التي بدأت بقرار لمجلس الأمن أكد فيه تنفيذ إسرائيل القرار 425. ليس الانهيار الذي يعاني منه لبنان سوى نتيجة طبيعيّة لسياسة واضحة كلّ الوضوح تقوم على تدمير كلّ مؤسسة لبنانية قابلة للحياة أو كلّ قطاع منتج، مثل القطاع المصرفي، يمكن أن يخدم استمرار لبنان بدل زواله.
في نهاية المطاف، يوجد تدمير ممنهج للبلد وتغيير في العمق للمجتمع اللبناني الذي لايزال قسم منه يدافع عن نفسه وعن ثقافة الحياة بدل ربط مصير البلد بالمجهول. يتمثّل المجهول بحرب غزّة التي معروف كيف بدأت وليس معروفاً كيف يمكن أن تنتهي. هل من جريمة أكبر من جريمة ربط مصير بلد بالمجهول؟
من لديه اعتراض على هذا الكلام، يستطيع أن يسأل نفسه ما إذا كان لبنان في 2024 أفضل مما كان عليه في العام 2000 لدى حصول الانسحاب الإسرائيلي؟
لا شكّ أن الجواب عن هذا السؤال معروف. ما ليس معروفاً هذا الإصرار على الانتهاء من البلد وعلى تشريد أبنائه في مختلف انحاء العالم...