من الواضح أنّ ما يجري في إسرائيل يتجاوز شخص بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينيّة. بات المطروح مستقبل إسرائيل وطبيعة علاقتها مع اميركا وأوروبا ومستقبل النموذج الذي تريد تقديمه للعالم الغربي بصفة كونها «الديموقراطيّة الوحيدة في المنطقة».
ما يدور في إسرائيل يمكن أن يقضي على الصورة التي تحاول تلك الدولة ترويجها في العالم، علما أنها تمارس ابشع أنواع الاحتلال في الضفّة الغربية والقدس بمساعدة واضحة من حركة «حماس». منذ نشأت هذه الحركة، التي هي جزء لا يتجزّأ من تنظيم الإخوان المسلمين، فعلت كلّ ما تستطيع لتبرير الاحتلال الإسرائيلي بدل أن تساعد في تكوين نموذج لما يمكن أن تكون عليه دولة فلسطينيّة مستقلة تتعايش بسلام وأمان مع محيطها. حولت «حماس» قطاع غزّة نموذجاً للفشل الفلسطيني في قيام دولة مستقلة لائقة تلبي تطلعات الشعب الفلسطيني أوّلاً.
لم يكن من هدف لـ«بيبي» من وراء تشكيل حكومته السادسة سوى القضاء على السلطة القضائية في الدولة العبريّة وجعل هذه السلطة أداة طيعة في يد الكنيست حيث يمتلك اليمين المتطرف أكثريّة.
يبدو اليمين المتطرف مستعداً لوضع هذه الأكثرية في خدمة رئيس الحكومة الذي لديه حسابات خاصة يريد تصفيتها مع القضاء. ما الذي سيفعله «بيبي» في حال تمكن من تصفية حساباته مع القضاء وما الذي سيكون عليه مصير حكومته التي تشكل عبئاً سياسياً عليه وعلى «الدولة الديموقراطيّة» التي يدعي تمثيلها في العالم؟
من أبسط المبادئ المعتمدة في أي دولة تدّعي أنّها «ديموقراطية» وجود فصل بين السلطات الثلاث: التنفيذيّة والتشريعية والقضائية. لا وجود لبلد يستطيع الادعاء أنّه «ديموقراطي» حين يكون هناك طغيان لسلطة على أخرى.
على سبيل المثال وليس الحصر، بدأ لبنان يفقد ميزاته كدولة «ديموقراطّية» حين صار القضاء في خدمة الأجهزة الأمنية السوريّة في مرحلة ما بعد السيطرة الكاملة لهذه الأجهزة على البلد بفضل الخدمات التي قدّمها لها ميشال عون الذي لم يخرج من قصر بعبدا، حين كان على رأس حكومة موقتة، لا مهمة لها سوى انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، إلّا بعدما طرده حافظ الأسد من القصر الجمهوري.
سمحت إسرائيل للنظام السوري بانهاء تمرّد عون وقتذاك. كان ذلك يوم الثالث عشر من اكتوبر من العام 1990، وهو يوم يحتفل فيه عون وصهره جبران باسيل بالانتصار على حافظ الأسد.
الحقيقة أن عون فرّ يومذاك من قصر بعبدا إلى منزل السفير الفرنسي (رينيه آلال) بعدما سمحت إسرائيل، بطلب أميركي، باستخدام سلاح الجوّ السوري في عملية طرد الجنرال المتمرّد من قصر الرئاسة.
كان ما فعله النظام السوري في تلك المرحلة استكمال وضع يده على كلّ الأراضي اللبنانيّة. بدأ بالمسّ بالقضاء اللبناني وصولاً إلى تطويع وإلى ذلك اليوم المشؤوم الذي اغتيل فيه رفيق الحريري في الرابع عشر من فبراير 2005. لولا إصرار الدول الكبرى والدول العربيّة النافذة على تحقيق دولي في قضية اغتيال الحريري... لكان القضاء اللبناني ما زال ينظر في هذه القضيّة بدل معرفة أدق التفاصيل المتعلقة بالجريمة.
صار العالم يعرف من يقف وراءها ودور بشّار الأسد في تغطيتها... وأسماء الأعضاء في «حزب الله» الذين نفذوا المجزرة التي ذهب ضحيتها رئيس الوزراء اللبناني السابق ورفاقه ومرافقوه فضلاً عن مواطنين ابرياء.
رحل الاحتلال السوري عن لبنان وتلاه الاحتلال الإيراني الذي استخدم عون مجدداً، بصفة كونه رئيساً للجمهوريّة، لمنع أي تحقيق دولي يكشف حقيقة جريمة تفجير مرفأ بيروت التي ذهب ضحيتها المئات ودمرت ثلث العاصمة اللبنانيّة.
خلاصة الأمر أن الإمساك بالقضاء جزء لا يتجزأ من الاحتلال. وهذا الأمر ينطبق على إسرائيل حالياً التي سقطت تحت احتلال الأحزاب الدينيّة المتطرفة التي لا علاقة لها بأي نوع من الممارسات الديموقراطيّة.
صارت الدولة التي تمارس الاحتلال وترفض حقوق الفلسطينيين ضحية الاحتلال الذي فرضته الأحزاب الدينيّة الساعية إلى القضاء على القضاء.
انقلب السحر على الساحر في إسرائيل. خلقت الرغبة لدى «بيبي» في القضاء على السلطة القضائية، من أجل وقف ملاحقته بموجب تهم في قضايا فساد يمكن أن تدخله السجن، انقساماً حاداً داخل المجتمع.
يبقى أفضل تعبير عن ذلك التظاهرات الشعبيّة التي وقفت مع القضاء في مواجهة المحاولات التي يقوم بها اليمين المتطرف من أجل تسخيف دوره ومنع المحكمة العليا من ملاحقة نتنياهو مستقبلاً.
لن تكون معركة «بيبي» مع القضاء سهلة. يؤكّد ذلك اضطراره إلى طرد أرييه درعي وزير الداخلية والصحة من حكومته بعدما أبطلت المحكمة العليا قرار تعيينه في هذا الموقع.
ليس سرّاً في إسرائيل أن درعي زعيم حركة «شاس» الدينية المتطرفة فاسد وقد دين سابقاً في قضايا فساد.
ليس معروفاً كيف سيبقى نواب هذه الحركة إلى جانب الحكومة في الكنيست وهل ينجح «بيبي» في تجاوز هذه المشكلة عن طريق تعيين نجل الوزير المقال مكانه؟
بدأ انهيار النظام في لبنان عندما بلغ الخلل السلطة القضائية. صار في لبنان قضاة يحتمون بالسياسيين وينفذون رغباتهم. ذهب وزير سابق للداخليّة هو إبراهيم فهمي إلى حدّ القول علناً أن معظم القضاة غير صالحين.
في إسرائيل، هناك أزمة داخلية حقيقية توجت بسعي اليمين المتطرف إلى التحكم بالقضاء من أجل إنقاذ المستقبل السياسي لبنيامين نتنياهو.
قبل ذلك، كان أفضل تعبير عن هذه الأزمة السياسيّة العميقة إجراء خمسة انتخابات عامة في غضون سنتين. كشفت هذه الانتخابات الحاجة إلى إصلاح النظام السياسي في بلد يزداد فيه الشرخ داخل المجتمع يومياً.
تصمد حكومة نتنياهو أو لا؟ هذا هو السؤال الكبير في وقت تبدو كلّ الآفاق مسدودة امامها داخلياً وإقليمياً ودولياً.
للمرة الأولى هناك حكومة إسرائيلية مرفوضة من اليهود الأميركيين.
لا يعني ذلك أن إسرائيل ستنهار غداً مقدار ما يعني أن المسّ بالقضاء لعبة خطيرة معروف كيف تبدأ ومن أين تبدأ ولكن ليس معروفاً كيف يمكن أن تنتهي...