كان السّيد حسين الحسيني، الذي غاب عن 86 عاماً ينتمي إلى طينة مختلفة من السياسيين اللبنانيين الذين رفضوا تلويث يديهم بالدم من أجل البقاء في المناصب العليا.
كان «سيّداً» محترماً وحقيقيّاً يستحقّ هذا اللقب العائلي. لذلك خرج من موقع رئيس مجلس النواب، وهو المجلس الذي دخله في العام 1972، محافظاً على مبادئ آمن بها دائماً في مقدّمها لبنان أوّلاً.
بقي صادقاً مع نفسه إلى اليوم الأخير من حياته السياسية الطويلة وفي منأى عن كل أنواع المغريات، بما في ذلك المناصب.
لم يكن المنصب يعني له شيئاً في حال لم يضعه في خدمة لبنان واللبنانيين من كلّ الطوائف بعيداً عن التقوقع الطائفي والمذهبي.
انتمى حسين الحسيني، ابن العائلة الشيعيّة العريقة، إلى مجموعة صغيرة من السياسيين اللبنانيين رفضت في كلّ وقت أيّ تبعيّة للخارج.
كانت لديه صداقاته في دمشق، لكنّه رفض في كلّ وقت أن يكون أداة لدى النظام السوري. لذلك كان عليه الخروج من رئاسة حركة «أمل»، بعد رفضه اقحامها في الحروب الداخليّة اللبنانية وفي حرب المخيمات مع الفلسطينيين.
رفض كلّ ما له علاقة بالحروب على الأرض اللبنانيّة وبقي متمسكاً بشعار الحوار بين اللبنانيين والإيمان بأن في استطاعتهم التوصل إلى صيغة تؤمن العيش المشترك في ما بينهم. جعله ذلك يخرج لاحقاً من موقع رئيس مجلس النواب الذي شغله بين أكتوبر من العام 1984 وأكتوبر 1992.
«ظُلم حسين الحسيني»، على حد تعبير رفيق الحريري، الذي سألته شخصياً لماذا أُغلق بيته السياسي في العام 1992. اكتفى الرجل الكبير، الذي أعاد الحياة إلى بيروت وأعاد وضع لبنان على خريطة المنطقة، وقد دفع ثمن ذلك غالياً، بهذا الجواب المقتضب.
رفض الحريري الخوض في أي تفاصيل تتعلّق برجل لعب دوراً في غاية الأهمّية في التوصل إلى اتفاق الطائف.
فحسين الحسيني كان، مع رفيق الحريري نفسه ومع الأمير سعود الفيصل، من بين أبرز عرابي الاتفاق الذي أنهى الحروب الداخلية اللبنانيّة من دون أن ينهيها.
لم ينهِ الطائف الحروب اللبنانية في ضوء رفض النظام السوري لجوهر اتفاق الطائف من جهة ورغبته في إبقاء سيطرته على الحياة السياسية اللبنانية وعلى المتاجرة بالجنوب اللبناني عبر ابقائه جرحا نازفا من جهة أخرى.
هذا ما رفضه دائماً حسين الحسيني، رفيق موسى الصدر، الذي وضع نفسه دائماً في خانة الشخصيّة الوطنيّة التي تنتمي إلى لبنان وليس إلى طائفة معيّنة.
ارتبط حسين الحسيني بعلاقة خاصة بشخصيات في مستوى صائب سلام وتقي الدين الصلح وريمون إده الذين تعرضوا للاغتيال السياسي بسبب إيمانهم بالفكرة اللبنانيّة ورفض الاستعانة بالخارج...
انتمى حسين الحسيني بالفعل إلى مدرسة موسى الصدر الذي سعى دائماً إلى إيجاد تلاحم بين المسيحيين والمسلمين في لبنان والذي كان سعيه إلى إنقاذ لبنان من بين الأسباب التي جعلت معمّر القذافي يتخلّص منه في أثناء زيارة لليبيا.
لم يكن قرار التخلص من موسى الصدر في أي وقت، قراراً ليبياً صرفاً بمقدار ما أنّه كان مرتبطاً بسورية وبما يحدث في إيران خصوصاً.
كان هناك خوف سوري من دور للصدر، الذي أُخفي في آخر أغسطس 1978، في جعل الجنوب اللبناني في منأى عن الفوضى.
كان النظام السوري مصرّاً على استمرار فوضى السلاح، التي امتهنها الفدائيون الفلسطينيون الذين كان النظام السوري يتاجر بهم، من حيث يدرون ولا يدرون، مثلما كان يتاجر بالجنوب اللبناني نفسه.
أما في إيران، فكان موسى الصدر مرشحاً لدور كبير فيها في وقت كان البلد على حافة تغيير كبير يتمثل في سقوط نظام الشاه. وهذا ما حدث في فبراير 1979.
لم يكن حسين الحسيني بعيداً عن الحدث الإيراني وذلك ليس من خلال موسى الصدر فقط بل من خلال علاقته الشخصية بـ«حركة تحرير إيران» التي كانت تضم خيرة معارضي الشاه من مثقفين وسياسيين يمتلكون فكراً متطوراً، يؤمن بوجود دستور عصري في إيران.
تمت تصفية هؤلاء واحداً واحداً في مرحلة ما بعد نجاح الثورة على الشاه وامساك آية الله الخميني بمقاليد السلطة وفرضه نظاماً على قياسه معتمداً نظريّة «الولي الفقيه» تحت تسمية «الجمهوريّة الإسلاميّة».
برحيل حسين الحسيني، يفقد لبنان قطعة منه. لا بدّ من التوقف عند محطتين في المسيرة السياسية الطويلة للرجل، أولاهما في 12 أغسطس 2008. يومذاك، أعلن الحسيني في خطاب ألقاه خلال التصويت على منح الثقة للحكومة الجديدة استقالته من البرلمان.
كانت المحطة الثانية في العام 2018، أعلن الحسيني في بيان أصدره انسحابه من المشاركة في الانتخابات النيابية بعد تشكيله لائحة في بعلبك - الهرمل مؤكداً خروجه من الحياة السياسية. شكّل لائحة كان يمكن أن يفوز عدد لا بأس به من أعضائها في الانتخابات التي أجريت في مايو من تاك السنة. لكنّه اكتشف أنّه لم يعد من مكان للحياة السياسية الطبيعية في بلد يجري فيه «تمزيق» للدستور يومياً.
تعبّر المحطتان عن يأس لدى الرئيس الحسيني، السيّد الحقيقي، وليس السيّد بقوّة السلاح المذهبي المدعوم من إيران، والرجل الذي كان نقطة التقاء بين اللبنانيين.
بقي حسين الحسيني ابن الأرض اللبنانية التي انجبته والتي ارتبط بها والتي مكنت أولاده من أن يكونوا على علاقة صداقة عميقة مع لبنانيين من مختلف الطوائف والمذاهب والمناطق. يمثل أولاده الذين تربوا في بيت لبناني عريق نموذجاً للعائلة المنفتحة على العيش المشترك من دون عقد وعلى كلّ ما هو حضاري في هذا العالم.
إنّهم يمثلون ما كان مفترضاً أن يكون عليه لبنان في محيطه العربي وما كان يفترض أن تكون عليه بعلبك نفسها المدينة التي سعى حسين الحسيني إلى خدمتها وتطويرها والتي تعبّر حالياً، بما آلت إليه من فوضى وتخلّف، عن البؤس اللبناني بكلّ ابعاده ومآسيه...