ليست الصين وحدها التي تبحث عن تفاهم مع الولايات المتحدة لتفادي مزيد من التصعيد بين البلدين. أميركا نفسها في حاجة إلى دخول مرحلة انفراج مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم، خصوصاً في ضوء نجاحها في إغراق فلاديمير بوتين في الوحول الأوكرانيّة.
لم يعد في استطاعة الرئيس الروسي، المضطر بين حين وآخر إلى التذكير بالسلاح النووي الذي لا يستطيع استخدامه، متابعة حربه على أوكرانيا وشعبها من دون الدعم غير المباشر الذي توافره له الصين... والدعم المباشر الآتي من «الجمهوريّة الإسلاميّة» في إيران.
ثمّة تفكير أميركي وصيني... وحتّى إيراني في كيفية التكيّف مع المعطيات الدولية الجديدة في ظلّ الهزيمة التي لحقت بروسيا في أوكرانيا. أزالت هذه الهزيمة، التي لن يحول دونها تحسن إداء الجيش الروسي في مواجهة الهجوم المضاد الأوكراني الذي بدأ قبل بضعة أيّام، أوهاماً كثيرة.
أزالت أوّلاً معظم الأوهام المرتبطة باستعادة روسيا لوضع القطب الدولي، في عالم متعدد الأقطاب... أخطأ بوتين عندما أعتقد أنّه قادر على استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي.
تبيّن أن بلداً، مثل روسيا، لا يستطيع لعب دور القطب الدولي في ما حجم اقتصاده أصغر من حجم الاقتصاد الإيطالي، بغض النظر عن كلّ الثروات التي يمتلكها. وهي ثروات من نفط وغاز ومواد أوّلية ومعادن مهمّة للصناعات المتقدمة.
لم يتعلّم بوتين شيئاً من انهيار الاتحاد السوفياتي. لا يريد البحث الجدّي في أسباب هذا الانهيار...
تكشف الزيارة التي يقوم بها وزير الخارجيّة الأميركي انتوني بلينكن لبكين، أهمية الاقتصاد وتأثيره على السياسة.
ذهب بلينكن إلى الصين التي تمثل ثاني أكبر اقتصاد في العالم، من أجل إيجاد تفاهم معها بدل السير في اتجاه صدام ذي نتائج في غاية الخطورة على العالم كلّه.
لا مصلحة أميركيّة في مثل هذا الصدام. يعود ذلك، قبل أيّ شيء، إلى حجم التبادل التجاري بين البلدين.
لا أميركا قادرة على تجاهل الصين ودورها العالمي ولا الصين قادرة على الذهاب بعيداً في أي مواجهة مع سوقي الولايات المتحدة وأوروبا التي لا تستطيع السماح بانتصار روسي في أوكرانيا.
أكثر من ذلك، تعرف أوروبا أنّه لم يكن في استطاعتها مواجهة الجيش الروسي في أوكرانيا لولا الدعم الأميركي... ولولا صمود الشعب الأوكراني بقيادة فولوديمير زيلينسكي.
ستحاول أميركا ترتيب أوضاع العالم بالتفاهم مع الصين التي يُفترض أن تكون عرفت حدود ما تستطيع عمله وما لا تستطيع عمله، خصوصاً في منطقة تنشأ فيها تحالفات جديدة من أجل درء «الخطر الأحمر»، أي خطر الصين الشعبيّة وطموحاتها.
الأكيد أن الرئيس الصيني شي جينبينغ ليس من السذاجة حتّى يظنّ أنّ العملة الصينيّة (اليوان) ستحل غدا مكان الدولار.
كلّ ما يستطيعه شي هو استغلال المأزق الذي وجد فيه بوتين نفسه كي تحصل بلاده على مصادر الطاقة من نفط وغاز روسيين بأرخص الأسعار... وبالعملة التي تناسبها.
كذلك، إنّ الرئيس الصيني ليس ساذجاً إلى حدّ اعتقاد أنّ «بريكس»، أي مجموعة الدول الطامحة إلى لعب دور على الصعيد العالمي كقوة اقتصادية، تمثّل قوّة متجانسة لا يهمّها سوى الوقوف في وجه أميركا.
هناك مصالح تربط بين الدول الست في «بريكس»، وهي البرازيل وروسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل.
لكنّ حدود هذه المصالح معروف. الأهمّ من ذلك كلّه وجود منافسة في ما بين هذه الدول.
ثمة حساسيات متبادلة بين الصين والهند دفعت الهند إلى إجراء مناورات مشتركة مع اليابان التي لم تعد تخفي تخوفها من أي توسّع صيني على حساب دول المنطقة، خصوصاً في البحر.
ليست اليابان وحدها التي تتعامل بحذر شديد مع الصين. هناك أيضاً، إضافة إلى الهند، دول مثل كوريا الجنوبيّة وأستراليا لا تستطيع إلّا أن تكون متيقظة لما تقوم له الصين، بما في ذلك تطلعها إلى السيطرة على تايوان يوماً بصفة كونها جزءاً لا يتجزأ من الصين كما حال هونغ كونغ.
الثابت أنّ تجربة هونغ كونغ التي عادت إلى الصين، بموجب اتفاق مع المملكة المتحدة، لا تشجع على الثقة بنيات القيادة في بكين. نكثت الصين بوعود كثيرة وتعهدات في شأن مستقبل هونغ كونغ والمحافظة على الديموقراطيّة فيها.
عادت هونغ كونغ إلى الصين في العام 1997، لكنها لم تستطع المحافظة على ما كانت تتمتع به من حريات فردية كما كانت عليه الحال ابان الحكم البريطاني.
لعلّ أكثر ما يثير القلق في ما يخص الصين، التي تواجه مشاكل داخليّة كبيرة في ضوء فرض سياسة إنجاب ولد واحد طوال عقود عدّة، العلاقات المريبة التي تربطها ببلد شاذ مثل كوريا الشماليّة.
يعرف العالم أنّ كوريين شماليين يعانون من الجوع، لكن الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون منشغل بتطوير أسلحة وصواريخ وتصدير تكنولوجيا الدمار إلى دول مثل إيران.
يعرف العالم أيضاً أنّ النظام القمعي في كوريا الشمالية ما كان ليبقى على قيد الحياة لولا الصين وهواية دعم الديكتاتوريات في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك سورية!
محكوم على أميركا التفاهم مع الصين، ومحكوم على الصين التفاهم مع اميركا التي تعاني بدورها من إدارة حائرة لم تعرف سوى كيف التعاطي مع الحرب الأوكرانيّة.
الأكيد أن الفضل في هذا التعاطي الناجح مع الحرب الأوكرانية يعود إلى سلسلة الأخطاء التي ارتكبها بوتين، لكنّ الأكيد أيضاً أنّ ما بعد الحرب الأوكرانيّة، التي لا بدّ أن تنتهي يوماً، ليس كما قبلها.
تستعد الصين لمرحلة ما بعد الحرب الأوكرانية، كذلك تفعل الولايات المتحدة التي تراهن على أن شي جينبينغ ليس فلاديمير بوتين وأنّ القيادة الصينية تمتلك ما يكفي من الرؤية لمعرفة حجم المشاغل الداخليّة لبلد بات مصدر قلق لمعظم جيرانه...