بعد شهر كامل على الاجتياح الروسي لاوكرانيا، وهو اجتياح تبيّن انّه ليس نزهة، بات في الإمكان القول انّ رجلا واحدا اسمه فلاديمير بوتين غيّر العالم وقضى على كلّ الانفراجات التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي واحزابه الشيوعيّة المنتشرة في كلّ انحاء الكرة الارضيّة، خصوصا في دول أوروبا الشرقيّة.
استعادت شعوب هذه الدول الاوروبيّة حرّيتها التي حرمتها منها نتائج الحرب العالميّة الثانيّة واتفاق يالطا. قسّم الاتفاق أوروبا إلى منطقتي نفوذ احداهما غربيّة وأخرى تابعة للاتحاد السوفياتي. لم تكن الايديولوجيّة التي تحكّمت بالاتحاد السوفياتي وبالدول التي وقعت تحت سيطرته، بعد العام 1945، تقلّ سوءا عن الايديولوجيّة النازيّة التي يدّعي بوتين انّه يتصدّى لها في أوكرانيا... في حين تبدو كل ممارساته مستوحاة منها.
لم يتردّد بوتين وكبار مساعديه في وصف الاوكرانيين بـ"النازيين الجدّد" متذرّعين بانّ هناك جرائم ارتكبت في حق سكان مناطق اوكرانيّة معيّنة يتمسّكون بلغتهم الروسيّة. ركّز هؤلاء على ان الحملة العسكريّة التي يشنّها الجيش الروسي، بحجة منع تمدّد حلف شمال الأطلسي (ناتو) الى أوكرانيا، تستهدف إزالة الفكر النازي الذي يتحكّم بالقيادة السياسيّة في أوكرانيا. يرفض بوتين والمحيطون به اخذ علم بأن الرئيس الاوكراني فولوديمير زيلنسكي يهودي... في بلد اكثريّة شعبه ارثوذكسية، كما عليه الحال في روسيّا.
ادّت الحملة العسكريّة التي يشنّها بوتين على أوكرانيا الى جعل أوروبا كلّها تعيد النظر في حساباتها وفي موقفها من روسيا. تنبهت أوروبا أخيرا الى ضرورة ان تكون لديها سياسة دفاعيّة مشتركة. الاهمّ من ذلك كلّه، ان أوروبا بدأت تفكّر في كيفية التخلّص من اعتمادها على الغاز الروسي. باتت كلّ دولة اوروبيّة، بمن في ذلك الدول البعيدة عن روسيا، تشعر بأنها مهددة. تذكّرت كل دولة العبارة المشهورة التي قالها ونستون تشرشل لرئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين بعد عودته من المانيا وتوصله الى نوع من المهادنة مع هتلر في تشرين الاوّل – أكتوبر من العام 1938. وقتذاك، وقّع تشامبرلين مع هتلر اتفاقا في ميونيخ يستهدف تهدئة المستشار الألماني بعد استيلاء المانيا على منطقة في تشيكوسلوفاكيا. قال تشرشل موجّها كلامه الى رئيس الوزراء في جلسة لمجلس العموم: "كان امامك خيار بين الحرب والذلّ. اخترت الذل. ستأتيك الحرب". اندلعت الحرب بالفعل في العام 1939 ولجأت بريطانيا الى تشرشل ليحلّ مكان تشامبرلين في موقع رئيس الوزراء.
استطاع فلاديمير بوتين تغيير أوروبا كلّيا. بات على كلّ دولة اوروبيّة، بما في ذلك السويد، التفكير في كيفية مواجهة خطر روسي محتمل وما اذا كان عليها الانضمام الى حلف شمال الأطلسي. المانيا نفسها تغيّرت. خصصت مئة مليار يورو لتعزيز قدرات قواتها المسلّحة في السنوات المقبلة.
ما اكتشفته أوروبا، في ضوء الحرب الاوكرانيّة، انّ ليس في استطاعتها الاعتماد على الولايات المتحدة التي فشلت الادارات المتلاحقة فيها في التعاطي مع مشاكل العالم منذ سقوط جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989. اذا وضعنا جانبا إدارة جورج بوش الاب كانت تعرف العالم، بدليل اكتفائها بتحرير الكويت من الاحتلال العراقي في شباط – فبراير 1991 وتوقف الجيش الأميركي عن ملاحقة الجيش العراقي داخل الأراضي العراقيّة، نجد ان الولايات المتحدة تحوّلت الى قوّة عظمى يحكمها هواة. لا وجود في داخل ايّ إدارة لخبراء بما يدور في هذا العالم على غرار ما كان عليه الامر في عهد بوش الاب الذي كان وزير خارجيته جيمس بايكر فيما مستشار الأمن القومي رجل حكيم في مستوى برنت سكوكروفت.
على الرغم من مجيء الرئيس جو بايدن الى أوروبا، ليس في القارة العجوز من هو مطمئن الى إدارة لم تدرك منذ البداية أنّ فلاديمير بوتين رجل متهوّرو خطير على العالم، رجل يمكن ان يقدم على مغامرة في حجم المغامرة الاوكرانيّة والتهديد باللجوء الى السلاح النووي!
تفرض الحرب الاوكرانيّة على أوروبا إعادة النظر في نظرتها الى الدور الأميركي في العالم، وهو دور تجاهل معنى سحق فلاديمير بوتين للشيشانيين (تدمير مدينة غروزني عن بكرة ابيها) ثم استعادته بالقوة شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في 2014 وتدخله مباشرة في الحرب التي يشنها بشّار الأسد، بدعم إيراني، على الشعب السوري ابتداء من أيلول – سبتمبر 2015. تدخّل سلاح الجو الروسي لقصف المدنيين السوريين والمستشفيات والمدارس من اجل انقاذ نظام اقلّوي ذي طبيعة قمعيّة اراد السوريون التخلّص منه. تصرّف السوريون تماما كما فعلت شعوب دول أوروبا الشرقيّة في الماضي. حدث ذلك في هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا حيث كانت الدبابات السوفياتية بالمرصاد لايّ تحرّك شعبي يستهدف الخروج من نير الاستعمار السوفياتي.
ليست أوروبا وحدها التي تعيد النظر في حساباتها في ضوء ما كشفته الحرب الاوكرانيّة. بات على كلّ دولة عربيّة إعادة النظر في علاقتها بالولايات المتحدة وما اذا كان في الإمكان الاتكال عليها كحليف تاريخي. يعود ذلك الى سببين اولّهما غياب أي رغبة اميركيّة في فهم خصوصيات الحلفاء وثانيهما العجز عن استيعاب ابعاد المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة. إنّه مشروع يهدّد كلّ شعب من شعوب المنطقة بدليل ما فعله بلبنان وسوريا والعراق... واليمن.
لم تكشف حرب أوكرانيا فلاديمير بوتين فقط. كشفت أيضا ترهّل الجيش الروسي الذي يبدو انّ عليه اللجوء الى أسلحة دمار اكثر تطورا من اجل القضاء على مقاومة الشعب الاوكراني وعلى المدن الاوكرانيّة.
يبقى انّ هذه الحرب كشفت قبل كلّ شيء مدى العجز الأميركي عن فهم العالم وأهمّية منطقة الخليج وما فيها من ثروات. كذلك، لم تفهم اميركا معنى الوجود الصيني في العالم وأنّ المناداة بالتصدي لـ"الخطر الصيني" شيء والعمل من اجل احتواء الصين شيء آخر. من فشل في مواجهة فلاديمير بوتين لا يمكن الاتكال عليه في ايّ مواجهة مع روسيا والصين... او مع "الجمهوريّة الاسلاميّة" في ايران ومشروعها التوسّعي.
الحرب الاوكرانيّة فشل روسي... وفشل اميركي أيضا!