يطوي دخول روسيا أوكرانيا عسكريا صفحة في العلاقات الدوليّة في ظلّ إدارة اميركيّة تكتفي بالتفرّج على ما يدور في العالم. سيكون على العالم البحث عن نظام دولي جديد مبني على نظام سقط قبل ان تتبلور ملامحه. كان مفترضا ان يكون هذا النظام، الذي لم تتبلور ملامحه، نظام القطب الواحد، بزعامة الولايات المتّحدة. لكنّ شيئا من ذلك لم يحدث. ستسعى الولايات المتحدة ومعها أوروبا إلى التعاطي مع ما فرضه فلاديمير بوتين في أوكرانيا الدولة المستقلّة التي لم يستطع احد حمايتها.
في مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين، كان الامل في قيام نظام دولي مختلف في عالم تسود فيه مبادئ الحرّية والعدالة، خصوصا بعدما تحرّرت دول أوروبا الشرقيّة من الهيمنة السوفياتيّة. بقيت مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين محصورة، إلى حد كبير، بأوروبا التي توسعت بفضل الاتحاد الأوروبي، لكنّها باتت الآن في مواجهة تحديات جديدة.
ما حصل في أوكرانيا مخيف جدا. يعود ذلك الى غياب أي رادع للعدوانيّة الروسيّة ورغبة فلاديمير بوتين في فرض امر واقع على الأرض بالقوّة العسكرية وبفضل ما يمتلك من صواريخ وقنابل نووية. لعلّ اخطر ما في الامر، أنّه كان في استطاعة الرئيس الروسي تحقيق جزء أساسي من مطالبه في أوكرانيا بمجرّد حشد قوّاته على حدودها. كان العالم مستعدا للأخذ والردّ مع الكرملين، بما في ذلك النظر في امتناع أوكرانيا عن دخول حلف شمال الأطلسي (ناتو). لكنّ السؤال – اللغز يظلّ لماذا كلّ هذا الإصرار لدى الرئيس الروسي على تغيير النظام في أوكرانيا والحاقها بروسيا بالقوّة؟
قد يكون الجواب في انّ بوتين أراد تعويد العالم على التعاطي مع روسيا من منطلق جديد يتلخص بعبارة انّ الاتحاد السوفياتي لم يمت. مع سقوط أوكرانيا عبر قوات دخلت من روسيا ومن بيلاروسيا في آن، عادت روسيا على تماس مباشر مع دول مثل بولندا وهنغاريا وسلوفاكيا ورومانيا ومولدافيا. لا شكّ ان هذه الدول ستعيد حساباتها في ضوء ما حل بأوكرانيا من جهة واستعداد الرئيس الروسي للتسبب بحرب عالميّة جديدة.
ثمّة شرعية ما زال بوتين يبحث عنها داخل روسيا نفسها. يعرف الرجل تماما مدى قوّة الشعور القومي لدى الروس. من هذا المنطلق لا يتوقف عن تذكير الشعب الروسي بتاريخه العظيم وامجاده مع تركيز خاص على أوكرانيا حيث لا ينقصه سوى العودة الى رفع شعارات البعث السوري الذي تعاطى مع لبنان بصيغة "شعب واحد في بلدين". هل تثبت الايّام المقبلة أنّ الشعب الاوكراني لا يميّز نفسه، بأكثريته، عن الشعب الروسي؟
في كلّ الأحوال، تبيّن قبل كلّ شيء ان أوروبا مفككة وانّها لا تمتلك أي انياب تمكنها من مواجهة روسيا عسكريا وذلك على الرغم من انّ أوكرانيا ليست عضوا في حلف شمال الأطلسي. اكثر من ذلك، لا وجود حاليا لزعماء أوروبيين. المانيا نفسها تبدو ضائعة في غياب انجيلا ميركل ووجود مستشار جديد اسمه اولاف شولتس يعرف تماما مدى اعتماد بلده على الغاز الروسي. امّا فرنسا، فقد فقدت توازنها منذ فترة طويلة. كان جاك شيراك آخر رئيس فرنسي يمتلك شيئا من ملامح الزعامة...
ستكون حاجة الى بلورة نظام دولي جديد في عالم تسوده الفوضى. لا شكّ ان الأمم المتحدة فقدت الكثير بعدما تبيّن انّ لا دور لها في معالجة ازمة في حجم الازمة الاوكرانيّة. تكاد الأمم المتحدة، التي يعطلها الفيتو الروسي، اقرب الى جامعة الدول العربيّة التي انكشف عجزها منذ وقت طويل...
في المقابل، قرّرت الولايات المتحدة الانكفاء واطلاق الكلام الكبير الذي لا ترجمة له على ارض الواقع في ظلّ رئيس مثل جو بايدن، يتبيّن كلّ يوم اكثر انّه باراك أوباما آخر. لا أجوبة لدى بايدن عن التحديات التي تسبب بها فلاديمير بوتين، كما ليس لديه ما يواجه به الصين.
كانت نقطة البداية للتراجع الأميركي في سوريا حيث ظهر ان باراك أوباما ليس سوى سياسي فاشل لا يهمّه سوى تفادي أي مواجهة من ايّ نوع. تراجع الرئيس الاميركي، بعد استخدام بشّار الأسد السلاح الكيميائي في حربه على شعبه صيف العام 2013. قبل ذلك هرب من العراق. استكمل في 2011 الانسحاب العسكري من معظم العراق بعدما عقد صفقة مع ايران تسمح لنوري المالكي بتشكيل حكومة.
لم يكن تراجع أوباما في سوريا حدثا عاديّا. لا يمكن تجاهل انّه استمع، وقتذاك، الى نصائح فلاديمير بوتين الذي اقنعه بانّ من الأفضل إيجاد طريقة كي يتخلّص النظام السوري من مخزون الأسلحة الكيميائية... بدل ضربه.
نجح فلاديمير بوتين في مناورته تلك. استعاض بشار الأسد في حربه على السوريين عن الأسلحة الكيميائية بالبراميل المتفجرة. ارتاح باراك أوباما بعدما نجح في العام 2015 في التوصل الى اتفاق مع ايران في شأن ملفّها النووي. أسوأ ما في الاتفاق انّه سمح لـ"الجمهوريّة الاسلاميّة" بمتابعة مشروعها التوسّعي في المنطقة بواسطة ميليشياتها المذهبيّة. ولمّا فشلت هذه الميليشيات في حماية بشّار الأسد ونظامه، لجأت طهران الى موسكو التي تدخلت مباشرة في سوريا ابتداء من أيلول – سبتمبر 2015... فيما اميركا في موقع المتفرّج.
في انتظار بلورة نظام دولي جديد، هناك عالم يعيش في حال من الفوضى. لا تعرف إدارة جو بايدن ماذا تريد في حين تبدو أوروبا مفكّكة وغير موجودة اكثر من ايّ وقت. اما فلاديمير بوتين، فلا شكّ انّه يواجه مقاومة اوكرانيّة. ليس ما يشير الى هذه المقاومة كافية كي يتراجع عسكريا. على العكس من ذلك، تبدو شهيّته مفتوحة اكثر من ايّ وقت. هل يتجرّأ في المستقبل على التدخل في دولة تنتمي الى حلف شمال الأطلسي مثل بولندا؟
مع رجل مثل بوتين يمكن توقّع كل نوع من المفاجآت، خصوصا ان اميركا ضائعة وأوروبا غائبة... اما الصين فهي تعتبر نفسها المستفيد الاوّل من كلّ ما يدور في هذا العالم العجيب الغريب.