ليس ما يدعو إلى الإستغراب، لا في لبنان ولا في غزّة، في ضوء رفض العودة إلى الجذور، أي إلى سبب المأساتين في البلد الصغير وفي القطاع الذي لا تتجاوز مساحته 365 كيلومترا مربعا. في لبنان وفي غزّة، هناك رفض للإعتراف بالواقع المتمثل في أنّه كان في الإمكان تفادي عملية التدمير الممنهجة التي تتبعها إسرائيل التي لم تمتلك في الماضي مشروعا سياسيا واضحا، خصوصا في ما يخص كيفية التعاطي مع "حزب الله" أو مع "حماس". ما لا بدّ من ملاحظته في الحالين أنّه قبل أن تفرض "الجمهوريّة الإسلامية" في إيران على لبنان، عن طريق "حزب الله"، ربط مصيره بقطاع غزّة، كانت فوضى السلاح في أساس ما يجمع بين الأرضين. كان لبنان دولة مزدهرة في مرحلة معيّنة فيما كان في إمكان غزّة أن تكون مشروعا لدولة واعدة مسالمة. قضت فوضى السلاح على لبنان وجعلت مشروع الدولة الفلسطينية مشروعا بعيد المنال في ضوء "طوفان الأقصى" وما تلاه من وحشية إسرائيلية أزالت غزّة من الوجود.
راهنت إسرائيل طويلا على تفاهمات مع "حزب الله". سميت تلك التفاهمات "قواعد الإشتباك". ما لبث الحزب أن خرق القواعد المتفق عليها عند إتخاذه قرارا بفتح جبهة جنوب لبنان بطلب إيراني. كان ذلك في الثامن من تشرين الأول – أكتوبر الماضي، في اليوم التالي لـ"طوفان الأقصى". أراد الحزب خوض حرب مع إسرائيل، على طريقته وضمن شروط معيّنة. رفضت إسرائيل ذلك، خصوصا في ضوء تهجير نحو مئة الف من مواطنيها من مستوطنات في الجليل. كانت الحسابات الإيرانية خاطئة. لم تكن "الجمهوريّة الإسلاميّة" تتوقع حربا طويلة ورد الفعل الإسرائيلي الذي قضى على جزء أساسي من بنية "حزب الله" الذي كان يتحكّم بلبنان نيابة عنها. كانت تعتقد أنّ أسابيع قليلة كافية كي تقتنع إسرائيل بوقف النار، على أن تلي ذلك مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة تجريها إيران مع الولايات المتحدة تقرّ فيها بوجود قوة مهيمنة في المنطقة إسمها "الجمهوريّة الإسلاميّة".
يعيش لبنان في ظلّ فوضى السلاح منذ العام 1969. في مثل هذه الأيام من تشرين الثاني – نوفمبر من تلك السنة، وقع قائد الجيش اللبناني إميل بستاني، الذي كان يَعدُ نفسه برئاسة الجمهوريّة، إتفاق القاهرة مع ياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذيّة لمنظمة التحرير الفلسطينية. كان إتفاق القاهرة بداية للإنهيار اللبناني نظرا إلى أنّه كان يعني تخلّيا للدولة اللبنانيّة عن جزء من سيادتها على أرضها.
لم يرّ لبنان يوما أبيض منذ توقيع إتفاق تخلّى فيه عن جزء من أرضه وأسّس لفوضى السلاح على أرضه كلّها، وهي فوضى إستغلّها النظام السوري، الذي كان على رأسه حافظ الأسد، إلى أبعد حدود. عمل النظام السوري على توريط الفلسطينيين أكثر فأكثر في الحرب الداخلية في لبنان بغية السيطرة عليه وفرض نفسه حكما بينه وبين اللبنانيين من جهة وإقناع الولايات المتحدة بأنّ حافظ الأسد هو الطرف الوحيد القادر على ضبط الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان من جهة أخرى.
خرج السلاح الفلسطيني من لبنان صيف العام 1982وحلّ مكانه السلاح الإيراني بغطاء سوري في البداية. لم يمض وقت طويل قبل أن يتبيّن أنّه لم تعد حاجة إيرانيّة إلى هذا الغطاء، خصوصا منذ إغتيال رفيق الحريري في العام 2005... وخروج الجيش السوري من لبنان على دمّ رفيق الحريري.
ما يمرّ به لبنان حاليا نتيجة طبيعيّة لفوضى السلاح التي قضت على مؤسسات الدولة وجعلت لبنان بمثابة دويلة في دولة "حزب الله" الذي ليس، بدوره، سوى لواء في "الحرس الثوري الإيراني". في ضوء تطور الأحداث، يبدو أكثر من طبيعي أن يتحوّل لبنان إلى ورقة في لعبة إيرانية تتجاوز حدود البلد الصغير ومصالحه ومصالح مواطنيه. دخل لبنان حرب "إسناد غزّة" من دون إرادته ومن دون سؤال في غاية البساطة: ما الهدف من مثل هذه الخطوة وما الفائدة من فتح جنوب لبنان غير تأكيد "حزب الله" أنّه ملتزم الأجندة الإيرانيّة؟
ما ينطبق على لبنان، ينطبق على غزّة. لم يكن من هدف من فوضى السلاح في القطاع، الذي انسحبت منه إسرائيل كلّيا في 2005، سوى ضرب المشروع الوطني الفلسطيني. استغلت "حماس" التي عملت من أجل فوضى السلاح التواطؤ الإسرائيلي مع هدفها الموجه ضدّ المشروع الفلسطيني. إرتدّت فوضى السلاح الفلسطيني في نهاية المطاف على "حماس" وعلى إسرائيل في آن. كان "طوفان الأقصى"، وهو الهجوم الذي شنته "حماس" بقيادة الراحل يحيى السنوار على مستوطنات غلاف غزّة نقطة تحوّل. كشف الهجوم، الذي لم تكن له أي آفاق سياسية، مدى خطورة الرهان على فوضى السلاح. إنّها فوضى لا فائدة منها، لا لشيء سوى لأنّها لا يمكن ان تبني مشروعا سياسيا.
كما في غزّة، كذلك في لبنان، لا يمكن لفوضى السلاح سوى أن تهدم. أخذ سلاح "حماس" غزّة إلى الدمار. ماذا ستفعل "حماس" غدا؟ هل لا يزال لديها مستقبل سياسي ما بعد الكارثة التي تسببت بها؟
ما الفائدة من سلاح "حزب الله"؟ هل لا زالت "الجمهوريّة الإسلاميّة" قادرة على توظيفه في خدمة مشروعها التوسعي، أم أن سلاح الحزب ارتدّ على البيئة الحاضنة للمقاومة مثلما ارتدّ على "حماس" التي خسرت امارتها الإسلاميّة في غزة وخسرت معها غزّة؟
في نهاية المطاف، خدمت فوضى السلاح اليمين الإسرائيلي في المدى الطويل. استغل اليمين الإسرائيلي، بقيادة بنيامين نتانياهو، "حماس" و"حزب الله" ليحاول تصفية القضية الفلسطينية وتدمير ما يمكن تدميره من لبنان بحجة أنّه يريد حماية حدود الدولة العبريّة. هل من يريد التعلّم من تجربتي لبنان وغزّة؟
ليس ما يشير إلى رغبة إيرانيّة في القيام بأي مراجعة ما دام لبنانيون وفلسطينيون يدفعون ثمن الحربين!