بقلم - عماد الدين حسين
قبل حوالى عشرين عاما كتبت مقالا فى صحيفة «البيان الإماراتية» عنوانه «يديعوت أحرونوت وأخواتها» حذرت فيه من خطورة ما تدسه فى أخبارها ومقالاتها.
وقتها كانت يديعوت أحرونوت لها طبعة عربية تدعى «واى نت».أو «عرب واى نت».
وقلت فيه ما معناه أن مطالعة الصحف الإسرائيلية من دون الفهم والوعى والانتباه يمكن أن تقود القارئ العربى إلى التأثر بما تنشره حتى من دون أن يدرى.
بعد نشر هذا المقال فوجئت بالصحيفة الإسرائيلية تأخد مقالى وتنشره على موقعها الإلكترونى تحت عنوان «يقولون عن واى نت»، وتركت الصحيفة مقالى لمدة ثلاثة أيام كاملة على الصفحة الرئيسية ربما لتقول لقرائها العرب إننا لا نخشى شيئا حتى من الذين يوجهون لنا كل أنواع النقد.
لماذا أكتب عن هذا الموضوع الآن؟
السبب هو السقطة المهنية الكبرى التى وقعت فيها صحيفة الجيروزاليم بوست الإسرائيلية، فقد ارتكبت سقطة مهنية كبرى حينما نشرت ليل الخميس الماضى تقريرا صحفيا عن الرفض القاطع للرئيس عبدالفتاح السيسى لتصريحات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الخاصة بطلبه تهجير سكان قطاع غزة إلى مصر والأردن.
وذلك خلال مؤتمره الصحفى مع الرئيس الكينى وليام روتو فى قصر الاتحادية بالقاهرة ظهر يوم الأربعاء الماضى.
وبدلا من أن تنشر الصحيفة التقرير مصحوبا بصورة المؤتمر الصحفى للرئيسين المصرى والكينى وهى متاحة ومنشورة، أو تنشر صورة الرئيس السيسى فقط من المؤتمر أو حتى من الأرشيف، او تنشر صورة موضوعية عن قطاع غزة الذى دمرته إسرائيل، فإنها لجأت إلى أغرب وأحط وأسوأ شىء وهو نشر صورة تجمع بين الرئيس السيسى والرئيس الإيرانى الراحل إبراهيم رئيسى الذى لقى مصرعه فى حادث تحطم طائرة هو ووزير خارجيته أمير حسين عبداللهيان فى ١٩ مايو الماضى، ويعتقد كثيرون أن إسرائيل ربما تكون وراء الحادث.
لو أن الجيروزاليم بوست كانت تهدف من وراء ذلك إلى وجود علاقات مصرية مع إيران، فكان يمكنها مثلا أن تنشر صورة الرئيس السيسى مع الرئيس الإيرانى الحالى خلال لقائهما على هامش قمة تجمع البريكس فى كازان الروسية فى ٢٣ أكتوبر الماضى، أو خلال لقائهما على هامش قمة الدول الثمانى النامية التى انعقدت بالقاهرة فى ١٩ ديسمبر الماضى.
لكن، ولأن الهدف خبيث ولئيم ووضيع وشرير فربما أرادت إرسال رسالة ضمنية واضحة وهى تهديد الرئيس السيسى والإيحاء بأنها قادرة على الوصول لكل من يعاديها.
الجيروزاليم بوست ليست بريئة وليست موضوعية.
هذه الصحيفة تأسست عام ١٩٣٢ وللمفارقة الكاشفة فإن اسمها كان «بلاستين بوست» لأنه ببساطة كانت هناك فلسطين ولم يكن هناك كيان يدعى إسرائيل.
ثم تغير الاسم إلى جيروزاليم بوست عام ١٩٥٠ بعد زرع إسرائيل فى المنطقة بعامين فقط.
هى بدأت ليبرالية لكنها صارت يمينية وتميل فى معظم الأحيان إلى دعم وتبنى السياسات الرسمية، خصوصا فيما يتعلق بالأمن والعلاقات الخارجية، وهى مملوكة لمجموعة جيروزاليم بوست ويقع مقرها الرئيسى فى مدينة القدس المحتلة وطبعتها الرئيسية بالإنجليزية لكن لها نسخة أيضا ناطقة بالعبرية.
ولأنها ناطقة بالإنجليزية فهى موجهة للخارج أكثر من الداخل، وهى أقرب الصحف إلى أجهزة المخابرات الإسرائيلية المختلفة سواء كانت «الموساد» أو «الشاباك» أو «أمان» وبالتالى فالرسالة الأخيرة واضحة.
حتى وقت قريب كان كثير من العرب يحسدون الصحافة ووسائل الإعلام الإسرائيلية لما تتمتع به من حريات غير مسبوقة، مقارنة بالإعلام العربى المصاب بمعظم أمراض المهنة وغالبية أنواع التضييق.
وللموضوعية فإن الإعلام الإسرائيلى لديه هامش حريات كبير مقارنة بالإعلام العربى، لكن من يتابع هذا الإعلام بصورة دقيقة سوف يكتشف أنه يعمل فى إطار تحقيق الأهداف الكبرى للمشروع الصهيونى، وباستثناءات قليلة من قبيل بعض المقالات فى صحيفة مثل «هاآرتس»، فإن الإعلام الإسرائيلى لا يمكن أن ينشر أى مواد لا يوافق عليها الرقيب الإسرائيلى ويمكن أن تمثل خطرا على الأمن القومى الإسرائيلى، وفى مرات كثيرة لا يمكن للإعلام الإسرائيلى أن ينشر مواد معينة إلا بالاستناد إلى ما ينشر بالخارج.
فى إسرائيل هناك حرية نقد للحكومة، لكن هناك تأييد كامل للأهداف الأساسية لإسرائيل مثل العدوان على الفلسطينيين ومنع إقامة دولة فلسطينية.
العدوان الإسرائيلى على غزة منذ ٧ أكتوبر قبل الماضى كشف لنا سراب وزيف مقولة «واحة إسرائيل الديمقراطية وسط صحراء الاستبداد العربى»، وكشف لنا خرافة حرية الصحافة هناك، فالصحافة التى تؤيد قمع وسجن وقتل شعب وتدمير أرضه ومحاولة تهجيره بالقوة بل وتنكر إنسانيته، يستحيل أن تكون حرة مهما ادعت ذلك.