ما قاله آدم سميث وما لم يقل

ما قاله آدم سميث وما لم يقل

ما قاله آدم سميث وما لم يقل

 العرب اليوم -

ما قاله آدم سميث وما لم يقل

بقلم - حازم صاغية

كان آدم سميث أحد أكثر المفكّرين تعرّضاً للاختزال: أفكاره لُخّصت بعبارة أو عبارتين من كتابه «ثروة الأمم» (وهو كتابان)، ونادراً ما أشير إلى عمله الآخر «نظريّة في الأحاسيس الأخلاقيّة» الصادر في 1759، قبل 17 سنة على «ثروة الأمم». كذلك أُخرجت مساهمته من سياقها التاريخيّ، وهو بدايات الرأسماليّة الحديثة، وانتُقدت بموجب إطلاقيّة تاريخيّة.
فسميث أوّل اقتصاديّ عرفه العالم، وهو مؤرّخ وفيلسوف أخلاقيّ مهتمّ بالمنطق والجماليّات، وخصوصاً بـ»التعاطف» الإنسانيّ الذي كرّس له الفصلين الأوّلين من «نظريّة في الأحاسيس...»، حيث يُحال إليه التماسكُ الاجتماعيّ. وهو لم يؤمن بأنّ الناس كلّهم، ودائماً، أنانيّون يريدون الأكثر مقابل تقديم الأقلّ.
صحيح أنّه أبدى آمالاً عريضة بمستقبل الرأسماليّة، لكنّه لاحظ أنّ للبشر حاجات «أسمى» كالحياة اللائقة والتعليم والعيش في مدن جميلة، ولم يغادره همّ التوفيق بين الربح وتقدّم الناس وتحسّن أحوالهم، أو دفع الأثرياء نحو تصرّف أفضل حيال سواهم. لهذا لم يقنعه الجواب المسيحيّ من أنّ شعور الأغنياء بالذنب يدفعهم إلى فعل الخير، لأنّه اعتبرهم ذوي قلوب باردة لا يحرّكها الذنب، لكنّه أيضاً لم يقتنع بأنّ الضرائب المرتفعة هي الحلّ لأنّها تهرّب الأغنياء.
وهذا لا يعني أنّه ناهض فرض الضرائب بالمطلق، ممّا بات النيوليبراليّون يرونه عقاباً على «نجاح الناجحين». فالضرائب تحدّ من ظلم السوق للفقراء، ومن تركّز الثروة الذي يضعف تكوين ثروة الأمم، لكنْ شريطة ألاّ تغدو مدخلاً لتثقيل وزن الدولة في الاقتصاد.
وكان اقتراحه الغريب، وربّما الساذج، أنّ المال يهمّ الأثرياء أقلّ ممّا تهمّهم المكانة والجاه. فهم لا يراكمونه لأنّهم طمّاعون، بل طلباً للاحترام والاعجاب. لذا على الحكومة أن تتفهّم غرورهم، وتمنحهم المكانة والجاه مقابل أدائهم أعمالاً مفيدة للعموم، فتوجّه «الغرور نحو أهداف صائبة».
والحال أنّ «ثروة الأمم» لحظة الذروة في الفكر الاجتماعيّ للتنوير. ففي إنكلترا أواسط القرن الثامن عشر، نما الثراء نموّاً هائلاً، وفي تفسيره الظاهرة وحضّه على إحراز المزيد من الثراء، سعى سميث إلى تطبيق المنهج «العلميّ»، الذي أثبت جدواه في الفيزياء، على المجتمع.
أمّا «ثروة الأمم»، الذي استغرقت كتابته أكثر من عشرين سنة، فهو بمعنى ما احتفال بتقسيم العمل الحديث. فما كان ينجزه شخص واحد في يومٍ صار تقسيمُه إلى مهامّ كثيرة ومتخصّصة أشدّ إدراراً للربح. وكان صنع الدبابيس المَثل الأكثر ذيوعاً وتكراراً الذي ضربه، سيّما وقد تفرّع إنتاج الدبابيس إلى 18 عمليّة مميّزة.
فقبلاً كان على من يريد الحصول عليها أن يقصد حِرَفيّ العائلة الذي هو بالتأكيد حاذق وماهر، لكنّه يصنع الدبابيس ببطء ولا يستطيع أن يصنع منها إلاّ عدداً قليلاً في اليوم. وبالنتيجة، كان لا بدّ أن يرتفع سعر الدبّوس كما تُفتقد الدبابيس في السوق. وإذا طبّقنا هذا المبدأ على السلع الأخرى انتهينا إلى أنّ نمط الإنتاج الحِرَفيّ غير فعّال بقياس الإنتاج الرأسماليّ الموسّع والعقلانيّ الذي يقوم على تقسيم العمل والتخصّص.
وبجعله العمل أكثر فعاليّة، وبالتالي إنتاجيّة، يضاعف تقسيم العمل ثروة المجتمع ويخلق، من ثمّ، سعادة إنسانيّة أعلى لأنّه يصعب أن تحلّ السعادة حيث يقيم البؤس والندرة.
لكنّ ما يعيق تقسيم العمل ويمنع توسيعَ السوق أمران: أسباب طبيعيّة لا يتغلّب عليها إلاّ تذليل الطبيعة وترويضها وتقصير المسافات، والتدخّل الحكومي الذي يحدّ من تقسيم العمل عبر تصغيره السوق. لهذا ينبغي تجنّب الاحتكارات والضرائب الحمائيّة ودفع الحكومات لأن تترك الأسواق على رسلها. فإذا اتُّبعت سياسة «دعه يمرّ» كانت النتيجة توازنا طبيعيّاً بين العرض والطلب يخلق أفضل السلع والخدمات، وهو ما سمّاه «اليد غير المنظورة للسوق».
بيد أنّ تلك التحوّلات تثير مشكلات اجتماعيّة ضخمة لم يتجاهلها سميث، علماً بأنّه لم يملك، منتصف القرن الثامن عشر، المعطيات التي بات يملكها نقّاد الرأسماليّة اللاحقون. فوق هذا، كانت مهمّته التوكيد على الإنتاج الرأسماليّ الحديث، لا على التوزيع الذي يكمن فيه أغلب سلبيّات الرأسماليّة.
فقد رأى أنّ أحد الآثار السيّئة لتقسيم العمل تحويله العمّالَ، الذين باتوا يجيدون عملاً واحداً مكرّراً، إلى بُلهاء، وهذا غير بعيد عمّا قصده ماركس لاحقاً حين شبّههم بالآلات. وفي مواجهة استلاب كهذا، أكّد على أهميّة التعليم، وعلى دفع أجور أعلى، واستخدام فوائض الثروة لمساعدة من هم أضعف بحيث لا يتضوّرون جوعاً.
والحقّ أنّ آثار التحوّل إلى الاقتصاد الحديث، بالإيجابيّ منها والسلبيّ، لا تُحصى: فإذ يتضخّم حجم العاطلين عن العمل، خصوصاً مع بطالة الحِرَفيّين القدامى، يتوافر مصدر دائم وفائض للعمالة، ما يخلق ثراء مصحوباً بمشاقّ ومظالم هائلة تعانيها الأجيال القليلة الأولى التي تلي التحوّل إلى اقتصاد تقسيم العمل. لكنّ عصر الآلات سيهمّش العمل العضليّ ويقرّب بين عملي الرجال والنساء، ما يحسّن وضع المرأة وموقعها. وفي استباق للماركسيّة رأى سميث أنّ تطوّر الاقتصاد الصناعيّ يعني تراتبيّة اجتماعيّة ترتكز على الثروة ونوع العمل كما تجزّىء المجتمع طبقاتٍ متنازعة. لكنْ هنا بالضبط، وعلى نحو مفارق، ربّما كمن أكبر أخطاء سميث «الماركسيّ». ذاك أنّه رأى تواطوءاً ضمنيّاً بين أرباب العمل لإبقاء الأجور في حدّها الأدنى، ما يسّهله صغر عددهم، والعلاقات الاجتماعيّة الوثيقة التي تجمعهم، وصلتهم القويّة بالحكومة. إلاّ أنّ ما ظهر لاحقاً، وقبل بزوغ النيوليبراليّة، أنّ الانتاج الكبير يستدعي استهلاكاً كبيراً يؤمّن تصريفه، وإلاّ فما العمل بتلك الكمّيّات الكبرى من السلع التي تُنتج؟ وبالمعنى هذا رأينا رأسماليّي القرن العشرين، كالأميركيّ هنري فورد والإيطاليّ جيوفاني أنيللي، يناقضون فكرة سميث، رافعين القدرة الشرائيّة للعمّال ومثبتين أنّ خفض الأجور ليس سمة ثابتة في الرأسماليّة.
لقد أسّس آدم سميث الاقتصاد كعلم، وأثّر في ماركس الذي أراد أن يهدم الرأسماليّة تأثيره في كاينز الذي أراد أن ينقذها من نفسها. وما من مبالغة في القول إنّه، رغم القصور الذاتيّ والموضوعيّ، يبقى متقدّماً بأشواط على النظريّات «اليساريّة» التي تصادر الاقتصاد، وتصادر معه المجتمع، كما على النيوليبراليّة «اليمينيّة» التي انشقّت عن ليبراليّته.

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ما قاله آدم سميث وما لم يقل ما قاله آدم سميث وما لم يقل



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:13 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

تعليق التدريس الحضوري في بيروت ومحيطها حتى نهاية العام
 العرب اليوم - تعليق التدريس الحضوري في بيروت ومحيطها حتى نهاية العام

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 07:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"فولكس فاغن" تتمسك بخطط إغلاق مصانعها في ألمانيا

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 15:39 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا يوسف تخوض تحديا جديدا في مشوارها الفني

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 14:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 17:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

حماس تعلن مقتل رهينة بقصف إسرائيلي شمالي غزة

GMT 08:28 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية

GMT 08:16 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

"حزب الله" يعلن استهداف قوات إسرائيلية في الخيام والمطلة

GMT 08:32 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

GMT 22:49 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

غارة إسرائيلية على معبر حدودي بين سوريا ولبنان

GMT 17:46 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الشيوخ الأميركي يطالب بايدن بوقف حرب السودان

GMT 23:03 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الملكة كاميلا تكسر قاعدة ملكية والأميرة آن تنقذها
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab