ستالين عالماً لغويّاً

ستالين عالماً لغويّاً!

ستالين عالماً لغويّاً!

 العرب اليوم -

ستالين عالماً لغويّاً

بقلم - حازم صاغية

العنوان أعلاه ليس مزاحاً. فـ»أب الشعوب» كانت له مساهمته في علم اللغة أيضاً.
والحال أنّ القائد التوتاليتاريّ، الآتي من حزب يستند إلى فكرة، مدعوٌّ دائماً لأن يبدو مثقّفاً في الأفكار والكتب، وهو قد يكون كذلك فعلاً، علماً أنّ الحقيقة تلك تنزع السحر الذي تحاط به الثقافة أحياناً ولا تستحقّه دائماً. ذاك أنّ الكتب والأفكار تشكّل للعقائديّ مادّة لا تتوفّر للسياسيّ التقليديّ، كما لا يعيرها الأخير بالضرورة، ولفظيّاً على الأقلّ، أهميّة مماثلة. فتشرشل وكيسنجر وبريجنسكي وكرايسكي وسواهم كانوا أيضاً مثقّفين، إلاّ أنّ تبريرهم لسياساتهم لم يستند بالدرجة نفسها إلى مقدّمات فكريّة، بل إلى إنجازات فعليّة تُحسب بالوقائع والأرقام.
أمّا ستالين فأصدر، في 1950، «الماركسيّة ومسائل اللغويّات»، وهو الكتيّب الذي عدّه شيوعيّون وماركسيّون كثيرون أفضل ما كتبه. لكنّ مادحي هذا العمل، ممّن لم يكن الخوف وراء مديحهم، كانوا كمن يناقشون في الخلّيّة المغلقة نقاشاً يراه سواهم سخيفاً أو بديهيّاً: فالأحزاب الإيديولوجيّة تفرض نظريّة يراد تحويلها إلى معتقد شبه دينيّ، فإذا أعاد أحدهم النظر فيها، استجابةً لظروف تتطلّب إعادة نظر، عُدّ كلامه العاديّ جدّاً باهراً يلامس العبقريّة.
كتيّب ستالين بدأ مقالةً طويلة نشرتها صحيفة «برافدا»، وقيل أنّه كتبها وأعدّها قبل سنوات على ثورة 1917، ثمّ أضيفت إليها الأسئلة التي زُعم أنّ الرفاق طرحوها عليه وأجوبته عنها.
وكانت «برافدا»، وبمباركة ستالين طبعاً، قد افتتحت مناقشة المسألة اللغويّة، في الاتّحاد السوفياتيّ متعدّد اللغات، كما في النظريّة الماركسيّة، عبر مقالات مهّدت لمقالة ستالين التي غدت كتاباً.
يستعير الكاتب، في البداية، تواضعاً يعلن معه نقص خبرته في اللغويّات، لكنّه يعلن أيضاً تضلّعه في موقف الماركسيّة منها. ومعروف أنّ الأخيرة تقصّر المسافات بين المعارف وتتيح إصدار الفتاوى فيها شريطة التقيّد بحذافيرها كمرجعيّة شبه دينيّة. وبدون أن تخلو مساهمة ستالين من آراء في قواعد اللغة ونظامها، يؤكّد أنّ اللغة لا تنتمي إلى «البنية الفوقيّة» (الدولة والسياسة والقانون والثقافة...) التي تنبثق، ماركسيّاً، من العلاقات الاقتصاديّة أو «البنية التحتيّة»، وأنّها بالتالي لا تعكس مصالح الطبقة الحاكمة ولا تحميها، بل يمكن للجميع استخدامها بمعزل عن طبقاتهم تسهيلاً للتواصل بينهم. فإذا كانت البنية الفوقيّة نتاج عصر ونمط إنتاج بعينهما، فاللغة نتاج عصور كثيرة كما تتعايش مع أنماط إنتاج عدّة.
فالأحداث التاريخيّة الكبرى، كالثورة البلشفيّة، تضيف إلى اللغة مفردات «مرتبطة بصعود إنتاج اشتراكيّ جديد»، كما تتساقط معها كلمات فقدت راهنيّتها، لكنْ لا هذا ولا ذاك يغيّرانها على نحو ملحوظ لأنّها ليست صنيع طبقة بل نتاج طبقات المجتمع كلّها، تماماً كما قد تخدمها كلّها.
ويكرّر ستالين حججاً أخرى لتوكيد الفكرة ذاتها، فيشرح ما قصده فريدريك إنغلز حين تحدّث عن اختلاف اللهجات (لا اللغات) على أساس طبقيّ في بريطانيا، وما قصده صهر ماركس والشيوعيّ الفرنسيّ بول لافارغ بحديثه عن اللغة الفرنسيّة قبل الثورة وبعدها، وما قصده لينين بكلامه عن وجود ثقافتين طبقيّتين في ظلّ الرأسماليّة إلخ... نافياً، في الحالات جميعاً، أن يكون المقصود انتقالاً من لغة إلى أخرى، أو انفصالاً «طبقيّاً» داخل اللغة ذاتها.
لكنّ الشرّير في رواية ستالين هو اللغويّ نيكولاي ياكوفليفيتش مار، خبير اللغات القوقازيّة، الذي توفّي قبل 16 عاماً على صدور الكتيّب الستالينيّ. فمار أدخل على اللغويّات معادلة «غير صائبة وغير ماركسيّة» عبر توكيده «الطابع الطبقيّ» للّغة، فخرّب اللغويّات السوفياتيّة بما يناقض تاريخ الشعوب واللغات كلّها.
ومار كان قد عُرف أصلاً بنظريّته التي سُمّيت «اليافثيّة» (نسبة ليافث أحد أبناء نوح)، ومفادها أنّ لغات القوقاز تتّصل باللغات الساميّة للشرق الأوسط، وأنّها انتشرت على امتداد أوروبا قبل وفادة اللغات الإندو-أوروبيّة إليها.
وهي نظريّة صيغت قبل ثورة 1917، فحين حلّت الثورة أيّدها مار بحماسة وتطوّع لخدمة نظامها. هكذا خلط نظريّته الأصليّة بالماركسيّة وبالصراع الطبقيّ، مجادلاً بأنّ المستويات اللغويّة المتعدّدة إنّما تحاكي طبقات اجتماعيّة مختلفة وتتجاوب معها. فالبورجوازيّة البريطانيّة مثلاً تتحدّث بإنكليزيّة أقرب إلى الفرنسيّة التي تتحدّث بها البورجوازيّة الفرنسيّة ممّا إلى الإنكليزيّة التي تتحدّث بها الطبقة العاملة في إنكلترا. أمّا أن تكون وحدة اللغة عنصر توحيد للشعب الذي يتكلّمها فهذا، عنده، مجرّد وعي زائف أنجبته القوميّة البورجوازيّة. كذلك ادّعى مار أنّ اللغات الحديثة تميل، مع قيام المجتمع الشيوعيّ، لأن تندمج في لغة واحدة، مستنداً إلى الحملة التي شُنّت في روسيا العشرينات والثلاثينات لإبدال الأبجديّة السيريليّة بالأبجديّات اللاتينيّة، ومن ثمّ إبدال أنظمة الكتابة التقليديّة للغات الاتّحاد السوفياتيّ بأنظمة تستخدم الكتابة اللاتينيّة، أو خلق أنظمة تستند إلى الكتابة اللاتينيّة للغات السوفياتيّة التي كانت حتّى ذاك الحين لا تتمتّع بنظام كتابيّ.
وكانت هذه الميول إلى الليْتَنة (Latinisation)، وهي تعود قروناً قليلة إلى الوراء، جزءاً من النزعة المتأوْرِبة لدى بعض الانتلجنسيا الروسيّة، ورثها عنهم البلاشفة في طورهم الأوّل السابق على الصعود الستالينيّ بمضامينه الآسيويّة والشرقيّة.
وبالفعل باتت نظريّة مار النظريّة الرسميّة المعتمدة في روسيا بوصفها تمثّل «العلم البروليتاريّ» ضدّاً على «العلم البورجوازيّ». هكذا كُلّف صاحبها، ما بين 1926 و1930، بإدارة المكتبة الوطنيّة لروسيا، كما بقي حتّى وفاته في 1934على رأس المعهد اليافثيّ التابع لأكاديميا العلوم.
ولئن ظهر من أشار إلى أنّ أرنولد شيكوبافا، اللغويّ الذي عُرف بشدّة معارضته لمار ولنظريّاته، هو الذي أوحى لستالين بأفكار كُتيّبه، إن لم يكن هو نفسه من كتبه، يبقى أنّ المداخلة التي حملت توقيع الزعيم أدّت إلى دفن نظريّة مار، بحيث بدأ اللغويّون الروس يؤكّدون على أولويّة اللغة الروسيّة وعلى ضرورة أن تنصبّ الأبحاث عليها.
فالقواسم المشتركة مع العالم اللاتينيّ لم تعد مرغوبة، فيما بات صَهر السوفيات من غير الروس في اللغة والثقافة الروسيّتين هو المطلوب. أمّا إحكام قبضة ستالين على الحياة، بما فيها اللغة، فتفكّ باقي اللغز الذي توسّلَ الثقافة والأفكار ليجعل من ستالين عالماً لغويّاً.

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ستالين عالماً لغويّاً ستالين عالماً لغويّاً



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:13 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

تعليق التدريس الحضوري في بيروت ومحيطها حتى نهاية العام
 العرب اليوم - تعليق التدريس الحضوري في بيروت ومحيطها حتى نهاية العام

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 07:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"فولكس فاغن" تتمسك بخطط إغلاق مصانعها في ألمانيا

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 15:39 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا يوسف تخوض تحديا جديدا في مشوارها الفني

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 14:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 17:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

حماس تعلن مقتل رهينة بقصف إسرائيلي شمالي غزة

GMT 08:28 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية

GMT 08:16 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

"حزب الله" يعلن استهداف قوات إسرائيلية في الخيام والمطلة

GMT 08:32 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

GMT 22:49 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

غارة إسرائيلية على معبر حدودي بين سوريا ولبنان

GMT 17:46 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الشيوخ الأميركي يطالب بايدن بوقف حرب السودان

GMT 23:03 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الملكة كاميلا تكسر قاعدة ملكية والأميرة آن تنقذها
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab