حين علّمنا توكفيل النقد

حين علّمنا توكفيل النقد؟

حين علّمنا توكفيل النقد؟

 العرب اليوم -

حين علّمنا توكفيل النقد

بقلم - حازم صاغية

هل نستطيع أن «نمدح» و«نهجو» الظاهرة نفسها في وقت واحد؟ أليكسس دو توكفيل، أرستوقراطيّ القرن التاسع عشر الفرنسيّ، وكان أيضاً سياسيّاً ومؤرّخاً لبلده، استطاع. أبحر إلى الولايات المتّحدة في 1831 لدراسة نظامها الجزائيّ، وطاف لتسعة أشهر في رحلة قادته من الساحل الشرقيّ إلى نهر الميسيسبي، ثمّ أصدر كتابه «الديمقراطيّة في أميركا».
في هذا العمل المرجعيّ ليست الديمقراطيّة والمساواة، وهما عنده مترادفتان، فاضلتين فحسب. إنّهما سوف تعمّان العالم كلّه في المستقبل. وعملاً بأفكار زمنه رأى أنّه يستحيل وقف هذه المسيرة بوصفها نعمة إلهيّة.
فالمساواة (ولم تكن تنطبق على «الهنود» و«العبيد السود»)، هي الفكرة الأشدّ إحداثاً للتغيير، وأميركا البلد الأكثر تقدّماً فيها، إذ «الشعب يحكم العالَم السياسيّ الأميركيّ كما الله يحكم الكون».
وقد تحمّس توكفيل لفكرة الروابط الاجتماعيّة بين المواطنين، خصوصاً في «نيوإنغلاند»، حيث تكثر وتزدهر كـ«مصلحة ذاتيّة مفهومة على نحو صائب». ذاك أنّ المواطنين يدركون أنّهم يُفيدون أنفسهم عبر خدمتهم لمواطنيهم ومشاركتهم مشاريع مشتركة تحفّز «الروحيّة الأميركيّة» ضابطةً الأنانيّات وموجّهةً الطاقات للصالح العامّ.
والأهمّ أنّ الروابط مفتاح الحفاظ على الحرّيّة، عبرها يجتمع الأفراد ويحلّون مشاكلهم دون الاعتماد على الحكومة، فـ«حيث تجد حكومة في فرنسا... تجد رابطة في الولايات المتّحدة».
أمّا الدين فمصدر الأخلاق الأميركيّة الذي يوازن الفرديّة والماديّة، دافعاً بالناس بعيداً عن السعي وراء جمع المال: يعلّمهم أنّ الثراء ليس أهمّ ما في العالم، وأنّ عليهم الاهتمام بأهداف أسمى.
وأُعجب توكفيل بوطنيّة الأميركيّين وباحترامهم القانون، ومردّ ذلك أنّهم يملكون سلطة تغيير القوانين.
لكنّ الديمقراطيّة، من جهة أخرى، قد تلد المادّيّة: ففي فرنسا ليس جمع المال حاضراً بقوّة في نظام القيم، لأنّ آمال الفقراء بالثراء شبه معدومة فيما الأرستوقراطيّون ليسوا بحاجة إليه. أمّا الأميركيّون فآمنوا بأنّه عبر العمل الشاقّ يحرزون الثروة كإنجاز وحيد محترم. لكنْ حين تزيل المساواةُ امتيازاتِ الولادة والثروة، وتغدو كلّ المهن متاحة للجميع، يصير في وسع أيّ طَموح أن يسعى لإحراز التفوّق والمكانة الأرفع. وبسبب المساواة تغدو أدنى الفوارق نافرة وملحوظة، بل سبباً للغضب أو الحسد، وهو ما لا يعرفه المجتمع غير المساواتيّ الذي يحتفظ سكّانه بمثالات كثيرة تتعدّى الأغنياء و«الناجحين».
وأهمّ عيوب الديمقراطيّة، عند توكفيل، «طغيان الأكثريّة». فالقيم الديمقراطيّة والمساواتيّة تؤبلس كلّ اختلاف و«شذوذ»، ويسود الميل إلى تساوٍ يمجّ كلّ من يقدّم نفسه مختلفاً أو متميّزاً، بل يمقت الجهد الذي بذله المتميّز كي يتميّز. هنا يسود تنميط إيجابيّ لكلّ ما هو وسطيّ وعاديّ، وينشأ تجانس يعجز معه الأفراد عن مقاومة المعايير الاجتماعيّة التي تطغى وتسود. وقد بلغ الأمر بتوكفيل حدّ إنكار وجود حرّيّة الرأي في أميركا، إذ المعبّرون عن آراء مختلفة يشعرون بالغربة وسط شعبهم. وهذا ما يفسّر افتقار أميركا آنذاك إلى كتّاب كبار. فالثقة بأنّ النظام لا يقف في طريق ازدهار الأفراد واستقرارهم تُبعدهم عن التفكير النقديّ وتجعلهم يستسلمون إلى ما يسمّونه الحسّ السليم. وقد يفضي نموّ هذه الفرديّة إلى تضحية المواطنين بحقوقهم وبتدخّلهم في الشأن العامّ لمصلحة طمأنينتهم. فالبشر بطبيعتهم الإنسانيّة ميّالون إلى التخلّي عن حرّيّاتهم من أجل المساواة كونها تمنحهم الإشباع والرضا، وتجنّبهم متاعب الصراع والصبر ممّا تستدعيه الحرّيّة. هكذا يكبر تحكّم الدولة من غير معارضة له، وبنتيجة مركَزة السلطة تُدمّر المؤسّسات الوسيطة التي تقف بين الحاكم والفرد، فتمارس الحكومات قدراً هائلاً من التسيير الإداريّ الذي يقود إلى أبويّة جديدة، موفّرةً للأفراد حاجاتهم ومُبقيةً إيّاهم في طفولة أبديّة. وفي ظلّ استبداد ناعم، أو استبداد ديمقراطيّ كهذا، يتحوّل الناس قطيعاً فيما الدولة راعي القطيع. وهي مخاطر يعزّزها استنادها إلى إرادة الأكثريّة.
وهذا ما يخلق مجتمعاً مذرّراً لا يتّصل الواحد منه بالآخر ولا يشدّه شيء إليه، الأفراد فيه مُستَلبون يملأون فراغ حياتهم بالسعي وراء الثراء الماديّ. فلئن وُجد رجال أغنياء «فإنّ طبقة الرجال الأغنياء لا توجد. ذاك أنّ هؤلاء لا يشتركون في مشاعر أو مقاصد أو تقاليد أو آمال». هكذا يسهل التلاعب بالجماهير بسبب التباعد بين الأفراد ولا مبالاتهم بإساءات الحكومة وبتوسّع نطاقها.
والاستبداد هذا قد يكون أشدّ نفاذاً وتغلغلاً، وإن اتّخذ أشكالاً ألطف من أشكال الاستبداد الذي يمارسه الحكّام الطغاة.
وانتقد توكفيل أشياء أخرى كثيرة وأساسيّة في أميركا يومذاك، كضعف استقرار الحكومة التمثيليّة. صحيح أنّ الانتخابات المحلّيّة والرئاسيّة بَهَرتْه، لكنّه رأى أنّ الإكثار منها يدفع التشريع البرلمانيّ إلى اللحاق بالرغبات المتقلّبة للجمهور، وهو كثير التقلّب، ما يهدّد النظام السياسيّ واستقراره. هكذا فضّل انتخابات أقلّ، كما رفض مبدأ الاستفتاءات الشعبويّة. كذلك كتب الكثير عن التمييز العرقيّ والعبودية قبل 34 عاماً على إلغائها، علماً بأنّ «الحركة الإلغائيّة» كانت نشأت عام وصول توكفيل (1831) إلى أميركا. فالعبوديّة تجعل الجميع، لا العبيد وحدهم، أسوأ حالاً، ومَثَله الأبرز هو الفارق بين المقيمين على ضفتي نهر أوهايو حيث الجنوب العبوديّ مجتمع نائم وخامل فيما الشمال، حيث لا عبيد، يقِظ وحيويّ ومزدهر.
لقد أراد أن ينبّه إلى أنّ التقدّم الذي تحدثه الديمقراطيّة يجلب معه من المخاطر ما ينبغي معالجتها بهدف الجمع بين المساواة الديمقراطيّة والحرّيّة التي هي «الروح العامّة» لأميركا. أمّا في النهاية، فالسكّان يقرّرون «ما إذا كانت المساواة ستقود إلى العبوديّة أم إلى الحرّيّة، إلى المعرفة أم البربريّة، إلى الازدهار أم البؤس».
وهذه الأسطر ليست رأياً في رأي توكفيل، لكنّها تحيّة لمنهجه. فهو قال قولين يبدوان لوهلة متعارضين، ومارس لوناً من التأييد النقديّ للديمقراطيّة والمساواة وأميركا، لكنّه ذهب بعيداً جدّاً في التأييد كما في النقد، ورأى بعينيه الاثنتين. هذا ضعيف جدّاً في ثقافتنا السياسيّة.

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حين علّمنا توكفيل النقد حين علّمنا توكفيل النقد



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف
 العرب اليوم - دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 08:50 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
 العرب اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 08:28 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية
 العرب اليوم - واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 07:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"فولكس فاغن" تتمسك بخطط إغلاق مصانعها في ألمانيا

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 15:39 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا يوسف تخوض تحديا جديدا في مشوارها الفني

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 14:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 17:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

حماس تعلن مقتل رهينة بقصف إسرائيلي شمالي غزة

GMT 08:28 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية

GMT 08:16 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

"حزب الله" يعلن استهداف قوات إسرائيلية في الخيام والمطلة

GMT 08:32 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

GMT 22:49 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

غارة إسرائيلية على معبر حدودي بين سوريا ولبنان

GMT 17:46 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الشيوخ الأميركي يطالب بايدن بوقف حرب السودان

GMT 23:03 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الملكة كاميلا تكسر قاعدة ملكية والأميرة آن تنقذها
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab