ماكس فيبر في قراءته البروتستانتيّة والرأسماليّة

ماكس فيبر في قراءته البروتستانتيّة والرأسماليّة

ماكس فيبر في قراءته البروتستانتيّة والرأسماليّة

 العرب اليوم -

ماكس فيبر في قراءته البروتستانتيّة والرأسماليّة

بقلم:حازم صاغية

منذ يفاعته استحوذت الثورة الصناعيّة، وكانت تشقّ طريقها في أوروبا، على مَن بات عالم الاجتماع الألمانيّ ماكس فيبر (1864-1920). فهو مبكراً استشعر تأثيراتها في تضخّم المدن، ونشأة الشركات الكبرى، وظهور نخبة إداريّة تحلّ محلّ الأرستوقراطيّة القديمة. وفي تحليله تلك الظاهرات، خصوصاً الرأسماليّة أصلاً وفصلاً، انهمك كثيراً وطويلاً، ليخلص إلى ذاك الربط الشهير بين «روحها» و«الأخلاق البروتستانتيّة».
أطروحته تلك، ومنذ ظهورها في 1905، أثارت امتعاضاً كاثوليكيّاً رأى أنّ «عنجهيّة الشماليّين» هي وحدها ما يجعلهم يقرنون البروتستانتيّة بالرأسماليّة والتقدّم، فيما يقرنون كاثوليكيّة الجنوب الأوروبيّ بالتخلّف. لكنّها عزّزت، لدى كاثوليكيّين آخرين، امتداحاً ذاتيّاً مفاده أنّ البروتستانت، على عكسهم، يكرّسون حياتهم لجمع المال.
والحال أنّ فيبر، في تفسيره الظاهرة، لم يكتفِ بالنظرة التقليديّة التي ردّت الرأسماليّة إلى عوامل تقنيّة، خصوصاً تطوّر استخدام البخار، فاقترح عنصراً آخر هو الأفكار، لا سيّما الدينيّة، وتحديداً البروتستانتيّة، وبالأخصّ الكالفينيّة.
ذاك أنّ التوفيق بين الدين والدنيا كان سهلاً على الكاثوليك بسبب «الاعتراف» للكاهن، بحيث يُقرّون، على نحو منتظم، بأخطائهم وخطاياهم فيما يعفيهم الكهنة منها. وهكذا وجد طلب الخلاص تلبيته في الممارسات القروسطيّة للكنيسة عبر الاعتراف والحلّ من الذنوب، كما عبّر طقس الحجّ.
لكنْ مع الإصلاح الذي بدأه مارتن لوثر، مطالع القرن السادس عشر، تعرّضت تلك الممارسات لانتكاسة سبّبها عزوف البروتستانت الجدد في شمال أوروبا عنها، واتّجاههم إلى اختراع ممارسات جديدة تقودهم إلى الخلاص.
فالكاهن، في المذهب الجديد، لا يملك سلطة المسامَحة والحلّ من الذنوب التي يملكها الله وحده. بيد أنّنا نجهل نيات الله، وسوف نبقى على هذا الجهل حتّى يوم القيامة. وحتّى ذاك الحين، سيعيش البروتسانتيّ أسيراً لمشاعر قلق وذنب حادّة ومُعذّبة. فكيف، إذاً، ينبغي أن يتصرّف للبرهنة على أنّه فاضل يستحقّ الخلاص، علماً بأنّ الله، الذي يرى كلّ شيء، لا يبدي أيّ موقف للبشر؟ ثمّ، ما دام سيّد الأكوان العارف قد حدّد مسبقاً مصائر البشر، فإنّ أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً على أمل تغيير قدره المرسوم سلفاً، وهذا فيما يضغط على المؤمن واجب مطلق هو «أن يعد نفسه مختاراً، وأن يقاتل كلّ الشكوك بوصفها إغراءات الشيطان».
هكذا حوّرت البروتستانتيّة شعور مُعتنقيها بالذنب ليغدو انكباباً على العمل الشاقّ، وهو ما سماه فيبر «الأخلاق البروتستانتيّة». فقد سبق لجون كالفن أن جادل بوجود علامات خارجيّة وظاهرة تدلّ على الخلاص، منها الرفاهية الاقتصاديّة والنجاح الدنيويّ. هكذا، وبجعل السلوك الدينيّ أكثر دنيويّة، بات في وسع الكدح المتواصل المفضي إلى الثراء أن يمحو الخطايا. وليس بلا دلالة أنّ أيّام الأعياد والعطلات والراحة كانت، ولا تزال، عند البروتستانت، أقلّ منها لدى الكاثوليك، إذ الحماسة للعمل، وتالياً للربح والاستثمار، تندرج في «تمجيد الله»، فـ«حتّى الغنيّ لن يأكل إنْ لم يعمل، إذ حتّى لو لم يكن الأغنياء بحاجة إلى العمل لتلبية حاجاتهم، تبقى هناك مشيئة الله التي عليهم، مثلهم مثل الفقراء، أن يطيعوها». والعمل الشاقّ هذا إنّما يواكبه الزهد والتقشّف وإنكار المتع الدنيويّة أو تأجيلها، ورفض التنعّم بالثراء واستعراضه، بحيث لا ينجم عن الربح إلاّ مزيد من العمل ومن التوفير والاستثمار.
فإذا اقتصر العمل المقدسّ عند الكاثوليك على نشاطات السلك الدينيّ (كهنةً ورهباناً وراهبات)، فالعمل بذاته مقدّس عند البروتستانت، وهو ما يصحّ في كلّ عمل، من الأبسط إلى الأعقد. وهذا التصوّر إنّما انعكس نشاطاً وحماسة في شتّى فروع الحياة المهنيّة والعمليّة، حيث على البروتستانتيّ أن يكون الأفضل في حقله.
هكذا يُلغى التمييز بين المقدّس والأرضيّ، ليمسي المثال الزهديّ الذي كان يعاش في الأديرة مثالاً يعاش في الحياة الزمنيّة نفسها.
وعن هذا تنجم أبعاد وخلاصات اجتماعيّة وثقافيّة.
فالعمليّة الموصوفة هذه لم تحصل، حسب فيبر، إلاّ في أوروبا الغربيّة على يد البروتستانتيّة التي حملت «روح الرأسماليّة». وإذا كانت العائلة هي الوحدة الاجتماعيّة والعاطفيّة الأولى لدى الكاثوليك، فإنّ البروتستانت بدوا أقلّ عائليّة، إذ قد تكون العائلة نعمةً لكنّها أيضاً قد تكون نقمة ومسرحاً للرغبات الأنانيّة، وعلى الفرد الصالح بالتالي أن يوجّه طاقاته الخيّرة إلى الجماعة ككلّ، وإلى الفضاء العامّ، مع معاملة كلّ كائن بالعدل والاحترام اللذين يستحقّهما.
كذلك أدارت البروتستانتيّة والرأسماليّة ظهريهما للخرافة، وهو ما سماه فيبر «نزع السحر عن العالم». بهذا لم يعد يُنظر إلى البحبوحة كأعطية من الله، بل كنتيجة تفكير وممارسة للمهنة مستقيمة ودؤوبة ومديدة. ثمّ، ما دام الإيمان بالمعجزات قد ولّى، بات علينا الرجوع إلى العلم طلباً للفهم، ما يشجّع على التفحّص والاكتشاف العلميّين، ومن ثمّ التقدّم التقنيّ.
هذه العناصر مجتمعةً شكّلت المحفّزات الأساسيّة للرأسماليّة، بخلقها جيلاً من الشغّيلة ومن أصحاب المشاريع الذين يعملون بجدّ، كما حرّضت على استثمار الفوائض مجدّداً في العمليّة الإنتاجيّة، دافعةً المعتنقين لأن يكونوا أكثر فرديّة من أجل بلوغ الخلاص عبر تفوّقهم المهنيّ.
لقد حلّت محلّ رأسماليّة فيبر رأسماليّة أخرى يلعب فيها الإنفاق ما لعبه التوفير في الرأسماليّة الأبكر. وقد أُخذ على تحليله «مركزيّته الأوروبيّة»، و«نقص الحساسيّة»، أو «نقص المعرفة»، حيال تجارب الشعوب الأخرى، كما ذاع نقد ماركسيّ لفيبر يأخذ عليه وضعه العربة أمام الحصان، أي تفسيره الاقتصاد بالأفكار الدينيّة، فيما العكس هو المطلوب ماركسيّاً.
لكنّ دارس الكاريزما لم يكن عديم الحيطة حيال نقد كهذا، فختم كتابه بالإشارة إلى أنّ رصده لتأثير الزهديّة البروتستانتيّة على روح الرأسماليّة لا يلغي ضرورة الأبحاث التي تُظهر «كيف أنّ الزهديّة البروتستانتيّة، في تطوّرها وشكلها، تأثّرت هي الأخرى بكلّيّة الشروط الاجتماعيّة، وخصوصاً الشرط الاقتصاديّ»، مضيفاً أنّه، و«بالطبع»، لم يكن يهدف إلى إحلال تأويل سببيّ، روحيّ وأحاديّ، للثقافة والتاريخ، محلّ تأويلٍ ماديٍّ يماثله في أحاديّته.
وحتّى يومنا لا يزال الجدال مستعراً.

arabstoday

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

GMT 06:11 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

اكتشافات أثرية مهمة بموقع ضرية في السعودية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ماكس فيبر في قراءته البروتستانتيّة والرأسماليّة ماكس فيبر في قراءته البروتستانتيّة والرأسماليّة



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 16:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا
 العرب اليوم - روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا

GMT 07:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف
 العرب اليوم - دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 08:50 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
 العرب اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 08:28 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية
 العرب اليوم - واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية

GMT 07:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 10:18 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

الوجدان... ليست له قطع غيار

GMT 09:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

كفاءة الحكومة

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 22:55 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل تتجه نحو اتفاق لوقف إطلاق النار في لبنان

GMT 21:25 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

هوكشتاين يُهدّد بالانسحاب من الوساطة بين إسرائيل ولبنان

GMT 10:02 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

اثنان فيتو ضد العرب!

GMT 11:05 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد صلاح يعبر عن استيائه من إدارة ليفربول ويقترب من الرحيل

GMT 08:16 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

"حزب الله" يعلن استهداف قوات إسرائيلية في الخيام والمطلة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab