جسور توما الأكويني

جسور توما الأكويني...

جسور توما الأكويني...

 العرب اليوم -

جسور توما الأكويني

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

نادرون رجال الدين الذين يقبلون التوفيق بين نصّهم المقدّس ونصوص أخرى صادرة عن تقاليد أخرى. وحتّى لو كانت الأخيرة دينيّة، يبقى انتسابها إلى أديان ومذاهب مختلفة سبباً لاستبعادها. مع هذا يصعب التفكير في قضايا راهنة كـ»مصالحة الدين/الإيمان والعلم/العقل»، أو الانفتاح على الآخر، دون التوقّف المطوّل عند الراهب الدومينيكانيّ توما الإكوينيّ. فهو أحد أشهر بُناة الجسور بين تقاليد متباينة، كما يُعدّ، وفق ما يراه دارسو عمَلَيه الأبرز «الخلاصة اللاهوتيّة» و»الخلاصة في حقيقة الإيمان الكاثوليكيّ ضدّ أخطاء غير المؤمنين»، صاحب المساهمة الأضخم في تطعيم الثقافة المسيحيّة الغربيّة بأفكار من خارجها.

فالأكويني امتداد وتطوير لما أرساه القدّيس أوغسطين الذي عاش في القرنين الرابع والخامس وكان عميق التأثّر بأفلاطون، تتلمذَ على ألبرت ماغنوس، أو الكبير، الراهب الألمانيّ الدومينيكانيّ المطُوّب قدّيساً، والذي عرّف بابن رشد وكان أوّل من دمج أرسطو والمسيحيّة.

وقد ارتبط اسم الأكويني بمفاهيم منها أنّ كلّ إنسان، مسيحيّاً أو غير مسيحيّ، يستطيع بلوغ الحقائق الكبرى حين يستخدم عقله الذي هو أهمّ عطايا الله. ففي وسع غير المسيحيّ أن يمتلك الحكمة دون أن يعرف المسيح، إذ تأتي الأفكار الصالحة من أيّ مكان بمعزل عن أديان حامليها وخلفيّاتهم. ولئن أضفت إنجازاته طابعاً كونيّاً على الفكر، فإنّها فتحت عقول المسيحيّين وعيونهم على سائر البشر وعلى تأمّلاتهم عبر الأزمنة والقارّات.

ابن العائلة الإيطاليّة النبيلة المولود في 1225، درّس في باريس واهتمّ بالنصوص القديمة للإغريق والرومان التي كانت قد اكتُشفت حديثاً، وبعد قرن على وفاته، طوّبته الكنيسة الكاثوليكيّة قدّيساً.

والحال أنّه في أواخر القرون الوسطى-العليا (1200-1300) بات ممكناً لمحاولات تشذّ قليلاً عن التقليد الأرثوذكسيّ أن تظهر، خصوصاً وأنّ دوائر كنسيّة بدأت تستشعر الحاجة إلى التجديد ومبارحة الركود والتكلّس الفكريّين. هكذا راحت فكرة التعايش بين المعرفتين الترابيّة والمقدّسة تلقى بعض القبول، وجعل ينشأ فرز وتمييز داخل التبويب الدينيّ للعالم، حتّى أنّ دانتي (توفّي في 1321) وضع الفلاسفة الوثنيّين في الدائرة الأولى من الجحيم، أي أنّهم لا يصعدون إلى السماء لكنّ ما يصيب باقي الوثنيّين لا يصيبهم.

لكنّ الانفراجات الجزئيّة تلك لا تلغي الصعوبات الماثلة. فرسمّيّاً ظلّت مبادىء أرسطو، حتّى 1277، تُعتبر مُحرّماً، إذ أدرجها التأويل الكنسيّ في خانة الوثنيّة الهدّامة. وفي 1270 و1277، أصدر مطران باريس إدانتين لتعاليم أرسطو وابن رشد والأكويني، وذهب دانتي، الذي أسكن روح الأكويني «في سماء الشمس»، إلى أنّه مات مسموماً. وفقط في القرن السادس عشر نشأ إجماع كنسيّ حوله وحول تراثه، وبات مسلّماً بأنّ أعماله جزء من المعتقد الكاثوليكيّ، ثمّ في 1880 سُمّي شفيعاً للمعلّمين ومؤسّسات التعليم بوصفه عاش معلّماً.

والأكويني، الذي عُرفت فلسفته بـ»السكولائيّة» و»التومائيّة»، يبقى الوجه الأشدّ دلالة على تطوّر الفكر المسيحيّ القروسطيّ، والأكثر اشتغالاً على وصل التقليد الإغريقيّ الرومانيّ بالمسيحيّة، ومصالحة التعليم الكلاسيكيّ للوثنيّة والتعليم المسيحيّ. أمّا أرسطو، الذي سمّاه الأكويني «الفيلسوف»، فكان أكثر من أثّروا فيه، هو الذي بلغ أوروبا عبر ناقله ومترجمه العربيّ. ومعروف أنّ شروح ابن رشد للفيلسوف الإغريقيّ وتعليقاته عليه تبقى من أبرز مساهماته الفكريّة. وإنّما تأثّراً بأرسطو اعتبر الأكويني أنّ الطبيعة نُظّمت لأغراض نافعة وحميدة، وأنّ المعرفة ليست كامنة سلفاً فينا، بل هي ما نتوصّل إليه بأحاسيسنا كما بالحقائق القابلة للتعليل المنطقيّ.

لكنّه استعار أيضاً من وثنيّين آخرين، خصوصاً شيشرون الذي أخذ عنه فكرة القانون الطبيعيّ بوصفه قانوناً أخلاقيّاً ومعياريّاً يصل إلى الناس عبر نور العقل الإنسانيّ بمعزل عن أيّ وحي. وكان الأكويني، إلى هذا، شديد الاهتمام بالثقافتين اليهوديّة والإسلاميّة ممثّلتين بابن ميمون وابن رشد اللذين رحلا قبل عقدين على ولادته، وهذا علماً بأنّ تأثّره بفكرهما لم يحل دون نقده لهما.

أمّا نقطة انطلاقه فمفادها أنّ بعض أكبر مفكّري العالم ومُصلحيه وثنيّون أو غير مسيحيّين، ما يعني أنّ في الوسع اكتشاف العالم بطريقة نافعة عبر العقل، لا عبر الإيمان وحده. فهناك أعمال ونشاطات نافعة، في الاقتصاد والعمران وسواهما، يكفي لأدائها التجاوبُ مع القانون الطبيعيّ دون حاجة للرجوع إلى القانون المقدّس. وهناك أعمال شرّيرة، كأنْ يقتل الأبناء أهلهم، ممّا لا نحتاج إلى الكتاب المقدّس للتأكّد من شرّها. وفي المقابل، إذا كان في وسع الفلسفة أن تبرهن على وجود الله، فإنّها لا تستطيع البرهنة على وجود الثالوث المسيحيّ ممّا يُبحث عنه في اللاهوت. ولئن وُجدت «طرق خمس» في تبيان وجود الله، فهذه الطرق إنّما تُصاغ في مجادلات منطقيّة لا تقبل الدحض، فلا يعوزها اللجوء إلى اللاهوت والكتاب المقدّس. لكنْ يبقى أنّ بعض ما يقوله العقل يمكن أن يجد إثباته في المعرفة التي يقدّمها اللاهوت والعكس بالعكس.

وعلى العموم أقرّ الأكويني بتقسيم عمل، إن صحّ التعبير، يتاح معه للفضاءات والأفكار غير الدينيّة أن تنشأ وتنمو. ذاك أنّ الإيمان والعقل ليسا متماثلين، لكنّهما ليسا متناقضين، إذ لكلّ منهما مجاله واختصاصه.

لقد ظهرت أفكار الأكوينيّ (التي تناولت ما لا حصر له من قضايا) حين كانت الثقافة الإسلاميّة تعاني، في ما يتعلّق بمصالحة العقل والإيمان، مشكلات تشبه ما عانته الثقافة المسيحيّة. وشهيرة محنة ابن رشد الذي أُحرقت كتبه واضطُهِد ونُفي بعد حقبة ازدهار وتفتّح عرفتها الأندلس والمغرب ومصر، بحيث أراد الأكويني، في ما أراده، أن يجنّب العالم المسيحيّ ما ألمّ بالعالم الإسلاميّ المجاور.

هكذا نجح إلى حدّ بعيد، رغم قوّة إيمانه، بأن يقيم إطاراً للبحث العلميّ الحرّ مدعوماً بانفتاحه على الآخرين وعلى أفكارهم. فالمعرفة لا تصير معرفة ما لم تأت من مصادر متعدّدة ومختلفة: من الوحي لكنْ أيضاً من العلم، ومن الحدس لكنْ أيضاً من العقل، ومن الرُهبان لكنْ أيضاً من الوثنيّين وغير المسيحيّين. وبالجهد هذا، لا سيّما مزاوجته أرسطو والمسيحيّة، خطا الأكويني إحدى الخطى الكبرى في تقدّم الفكر العقلانيّ وفي تبلور الثقة بحرّيّة الأفكار واستقلالها.

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جسور توما الأكويني جسور توما الأكويني



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:13 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

تعليق التدريس الحضوري في بيروت ومحيطها حتى نهاية العام
 العرب اليوم - تعليق التدريس الحضوري في بيروت ومحيطها حتى نهاية العام

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 07:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"فولكس فاغن" تتمسك بخطط إغلاق مصانعها في ألمانيا

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 15:39 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا يوسف تخوض تحديا جديدا في مشوارها الفني

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 14:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 17:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

حماس تعلن مقتل رهينة بقصف إسرائيلي شمالي غزة

GMT 08:28 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية

GMT 08:16 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

"حزب الله" يعلن استهداف قوات إسرائيلية في الخيام والمطلة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab