مع انحسار موجة الغضب بسبب موت جورج فلويد في عملية إلقاء قبض فاشلة، ربما حان الوقت للنظر فيما أنجزه الغضب الذي أشعله الحادث في نفوس الكثيرين في مدن عبر مختلف أرجاء العالم.
وللأسف الشديد، أخشى أن جزءاً كبيراً من هذا الغضب ليس فقط أهدر، وإنما قد يكون قد أسهم في تعميق مشاعر السخط الجماعي. في الواقع، ثمة سببان على الأقل يقفان وراء هذا الاعتقاد الذي يخالجني.
بادئ ذي بدء، تعرض حادث مقتل فلويد للاختطاف من جانب تجار المظالم الذين دائماً ما يسعون بدأب وراء أي مبرر لشن هجمات ضد الأنظمة الديمقراطية الغربية، خاصة الولايات المتحدة. وحول هؤلاء التجار فلويد إلى «شهيد» لـ«الامبريالية» الأميركية وتظاهروا بأن الولايات المتحدة، وكذلك الأنظمة الديمقراطية الغربية الأخرى، تشكل معقل «العنصرية «.
واعتماداً على حيل خطابية، وصف هؤلاء حادث مقتل فلويد بـ«القتل»، متجاهلين أن لهذه الكلمة معنى محدداً لا ينطبق على الحادث المؤسف الذي وقع في مينيابوليس.
لقد توفي فلويد لأن، تكنيكياً، شرطياً مستخدماً في أكثر عن 20 دولة اتخذ مساراً خاطئاً تماماً، لكن الشرطي الذي أصبح المسؤول عن وفاة فلويد لم يسع أو يخطط لقتله. ومن أجل هذا السبب تحديداً، تتضمن اللغة الإنجليزية مصطلحات بديلة مثل القتل غير العمد والقتل العمد.
وتمثلت حيلة أخرى في الادعاء بأن فلويد قتل لأنه داكن البشرة، متجاهلين بذلك أن تكنيك الخنق ذاته المستخدم في إلقاء القبض على الأشخاص حصد أرواحاً أخرى، بيضاء وداكنة البشرة، داخل الولايات المتحدة وفرنسا. وعليه، فإن القضية الحقيقية هنا المتمثلة في الحاجة إلى مراجعة والتخلي عن تكنيك لإلقاء القبض يمكن أن تنجم عنه الوفاة، جرى تجاهلها؟
ورغم أن من نصبوا من أنفسهم مدافعين عن الإنسانية رأوا في حادث مينيابوليس مثالاً على عنصرية الدولة، فإنه في الحقيقة العنصرية شيء والتحامل العنصري، بل وحتى الكراهية، شيء آخر تماماً.
تشير العنصرية إلى رؤية عالمية ظهرت أواخر القرن الـ18 ومطلع القرن الـ19، تقسم البشرية إلى خمسة أعراق يجري تمييزها من خلال لون البشرة، سواء كان مفترضاً أو حقيقياً. ومثلما الحال مع الرؤى العالمية الأحادية الأخرى التي تحكم على بني البشر من خلال عنصر واحد فقط من تكوينهم المركب، وقفت العنصرية، رغم بساطتها الخادعة، عائقاً أمام الدراسة العلمية الحقيقية للأجناس البشرية حتى القرن الـ20، ما حال دون دراسة جادة للبشرية بثرائها الشديد.
وتركت المذاهب الفكرية الأحادية الأخرى، مثل الماركسية التي قسمت البشرية إلى طبقات، مع تجسيد البروليتاريا للخير والبرجوازية للشر، تأثيراً مشابهاً.
وشكلت الرؤية العالمية العنصرية عنصراً في تركيب جميع هياكل الدولة في جميع الدول الويستفالية ما قبل الحداثة. في هذا الصدد، لم تكن الولايات المتحدة استثناءً. ومع هذا، فإنها تبدو بمثابة استثناء باعتبارها الدولة القومية الكبرى الوحيدة التي ناضلت في مواجهة العنصرية، وبمرور الوقت، وقفت ضدها.
وتسرد حرب الانفصال وحركات الحريات المدنية المتعاقبة والنضال ضد التمييز وأساليب مثل التمييز الإيجابي، فصول قصة أمة تسعى للانتقال بعيداً عن العنصرية. ولا يعني ذلك أن الولايات المتحدة تخلو من العنصرية. في الواقع، يوجد بها عنصرية، لكن سيكون من المجحف الادعاء بأن العنصرية عنصر هيكلي بها. ومن خلال الادعاء بأن الولايات المتحدة دولة عنصرية، فإن هذا لن يسفر إلا عن تشجيع العنصريين البيض المؤيدين لفكرة تفوق العرق الأبيض والذين يأملون لو أن هذا الادعاء صحيحاً.
ولم يكتف تجار المظالم بذلك، وإنما ربطوا بين ادعائهم بان الولايات المتحدة دولة عنصرية وتجارة العبيد عبر ضفتي الأطلسي في محاولة لتشويه صورة جميع الأنظمة الديمقراطية الغربية باعتبارها تجسيداً للشر.
بيد أنه في واقع الأمر، شكلت العبودية جزءاً روتينياً من الوجود البشري منذ البداية، وما تزال موجودة في بعض البقاع. ولم يكن الأفارقة أصحاب البشرة الداكنة الفئة الوحيدة من البشر التي سقطت تحت نير العبودية.
على سبيل المثال، أشار الفيلسوف اليوناني كسينوفون إلى أن حوالي 30% من سكان أثينا، التي تعد مهد الحضارة الهيلينية، كانوا من العبيد، وجميعهم كانوا رجالاً ونساء بيضاً من البلقان وآسيا الصغرى.
حتى في وقت سابق لذلك، كان لدى الدول الأولى التي ظهرت في التاريخ الإنساني، في سومر وبابل، عبيد ولم يكن أي منهم من أفريقيا. وكانت الإمبراطورية الرومانية قوة كبرى مالكة للعبيد. وكان كراسوس، الجنرال سيئ السمعة، من كبار تجار العبيد، وكذلك كان الحال مع يوليوس قيصر الذي كان يتاجر في عبيد من غرب وشمال أوروبا، والتي يوجد بها اليوم فرنسا وبريطانيا.
أما ثورة العبيد الشهيرة التي قادها سبارتاكوس فقد ضمت على نحو شبه حصري أسرى من القارة الأوروبية. وقد أمر كراسوس بصلب 10.000 منهم على طول طريق أبيا.
في روسيا، اتخذت العبودية شكل القنانة وتعلقت على نحو شبه حصري بضحايا بيض وآسيويين.
أيضاً، كانت العبودية تجارة كبرى في القارة الأميركية قبل أن ينتهي الحال بكريستوفر كولومبوس هناك عن طريق الخطأ بفترة طويلة. ومن جديد، لم يكن أي من العبيد من أفريقيا.
في آسيا، شكلت خان بلاخ، قلب السلطة في الصين في العصور الوسطى، مركزاً كبيراً لتجارة العبيد، وكذلك الحال مع خيفا الموجودة حالياً في أوزبكستان. ومن جديد، لم يكن الأفارقة مشاركين في هذه التجارة المظلمة في آسيا والتي حصدت أعداداً لا تحصى من الأرواح على مدار أكثر عن 1000 عام.
في الحضارتين الفارسية والعثمانية، جاء العبيد من القوقاز وإقليم اسكندنافيا، والمناطق التي تشكل روسيا اليوم. ومن جديد، لم يكن بينهم أفارقة من أصحاب البشرة السمراء.
وربما تكون ممارسة احتجاز أفارقة داكني البشرة كعبيد قد بدأت على يد رمسيس الثاني، الفرعون المصري الذي كان بحاجة لعمال من النوبة لبناء معبد وادي السبوع.
وبعد ذلك، جرى تصدير بعض العبيد من جانب القرطاجيين إلى روما بعد تفكيك امبراطورية هانيبال.
وبمجرد أن ضم الرومان إلى امبراطوريتهم شمال أفريقيا، استغلوا قبيلتي غارمانت وعفري من المحاربين من أصحاب البشرة الداكنة لجلب عبيد إلى الإمبراطورية. وفي غضون عقد، امتدت غارات اختطاف العبيد إلى ما وراء تيبستي وقرب بحيرة تشاد.
وبذلك بدأ تاريخ تورط الأفارقة أصحاب البشرة السمراء في اختطاف أقرانهم الأفارقة لبيعهم كعبيد.
ومن دون تورط الزعماء القبليين والحكام الأفارقة، لم تكن أية قوة خارجية لتتمكن من شن غارات داخل العمق الأفريقي واستغلاله كمصدر لا ينضب للعبيد.
عام 652 م وقع القائد العسكري العربي عبد الله بن سعد اتفاقية تجارية، عرفت باسم «بخت» مع حاكم دارفور لإمداده بـ20.000 عبد سنوياً مقابل ذهب. وظلت الاتفاقية سارية طوال 13 قرناً.
كما تورط حكام وزعماء قبائل أفارقة من أصحاب البشرة الداكنة في تجارة العبيد عبر الأطلسي. على سبيل المثال، حقق ساردونا من سوكوتو، في غرب أفريقيا، ثروته من بيع عبيد إلى تجار عبيد من البرتغاليين والبريطانيين والفرنسيين.
وفي سياق متصل، يبدو من الظلم المطالبة بإزالة تمثال كولبرت في باريس لأنه أول من سن قانوناً للعبيد يسعى لفرض قيود على هذه التجارة القميئة وضمان تمتع الضحايا ببعض الحقوق، وفي الوقت ذاته نتناسى الحكام الأفارقة الذين خطفوا وباعوا أبناء شعوبهم.
موجز القول أن العبودية كانت ممارسة شائعة تأثرت بها جميع المجتمعات الإنسانية. في الواقع، ورغم أنها استمرت أربعة قرون، شكلت تجارة العبيد داكني البشرة عبر الأطلسي نسبة أقل عن الضحايا الأوروبيين والآسيويين، ناهيك عن الأفارقة الذين جرى «تصديرهم» من منطقتي القرن الأفريقي وزنجبار.
في العبودية، جميعنا متورطون كجناة وضحايا. والتطهر من هذا العار مهمة نحملها جميعاً على عاتقنا، بغض النظر عن العرق واللون. وعبر هذا السبيل فقط، يمكن لـ«كوكتيل المظالم» الحالي أن يثمر نتائج إيجابية.