أزمتنا حضارية أم سياسية

أزمتنا.. حضارية أم سياسية؟

أزمتنا.. حضارية أم سياسية؟

 العرب اليوم -

أزمتنا حضارية أم سياسية

مأمون فندي

هل أزمة العالم العربي، وحالة التفكك السائدة في عرى المجتمعات، هي أزمة حضارية ثقافية، أم أزمة شرعية المؤسسات السياسية؟

في عام 1977، كتب زميلنا مايكل هدسون، الأستاذ بجامعة جورجتاون، كتابًا مهمًا بعنوان «العالم العربي والبحث عن الشرعية»، شخّص فيه أزمة العالم العربي على أنها أزمة شرعية في المقام الأول، وكان هذا تنظيرا سائدا حول العالم الثالث بدأه أساتذة كبار في السياسة المقارنة مثل جبرائيل الموند وسيدني فربا وهارد غريف وآخرين، حددوا فيه أزمات بناء الدولة في الدول النامية بأزمات خمس: أولاها أزمة الشرعية التي طبقها هدسون على حالة العالم العربي، وأزمة توزيع الموارد، وأزمة الفجوة في ما تدعيه الدولة من أرض وقدرتها على فرض سيطرتها عليها، وأزمة الهوية الوطنية، وأخيرا أزمة المشاركة السياسية. بمعنى أن الناس جزء من مشروع بناء الوطن، ولهم اهتمام ومصلحة باستقراره.

هذا ما كان سائدا في تنظير السبعينات من القرن الماضي في ما يخص مشاكل العالم الثالث. كل هذه الأزمات الخمس بشكل أو بآخر موجودة بنسب متفاوتة في كل الدول العربية تقريبا، ويمكن النظر إلى أزمتنا الحالية من هذا المنظور الفني جدا في مناقشة مشاكل الدول النامية، لكن عالمنا العربي اليوم يبدو مختلفا كثيرا عما قبل مع ظهور جماعات العنف وانهيار الدول بشكل مفاجئ. ورغم أهمية هذا التنظير السابق الذي تتجلى، وربما بوضوح، بعض ملامحه في العالم العربي، فإن أزمة العالم العربي من وجهة نظري اليوم ليست أزمة سياسية فقط، وإنما هي أزمة السياق الحضاري الذي تسبح فيه السياسة بناسها ومؤسساتها، وهي بهذا تكون حضارية في المقام الأول.

ماذا أعني بالأزمة الحضارية؟ الحضارات كما أي كائن حي تولد هشة ثم لا تلبث أن تكتسي بعنفوان الشباب الحضاري وفورته، ثم تشيخ وتموت، وهذا لا ينطبق على حضارة بعينها وإنما كل الحضارات والثقافات، وكذلك ينطبق على اللغة التي هي العربة التي تحمل الحضارة. الحضارة في معناها البسيط هي لغة حية متجددة يضيف إليها الناس جديدا كل يوم، وهي منظومة قيمية تميز حضارة عن أخرى، يكون الإسمنت أو الصمغ الذي يشدها إلى بعضها بعضا إما قيما دينية أو لحمة خاصة برؤية الفرد لنفسه والعالم وموقعه منه. أول ما ينهار في الثقافات هو ذلك الإسمنت أو الصمغ. وبهذا يكون ما تراه من تطرف ديني عندنا لا يعكس زيادة في التدين أو غلوًا في الدين، بل هو ملمح من ملامح فك الصمغ أو الإسمنت، أي تفكك المنظومة القيمية للدين لا تماسكها.

لماذا نحن في أزمة حضارية؟
عندما ترى الفجوة أو الهوة السحيقة بين القيم الدينية المدعاة للجماعات المتطرفة مثلا، وبين ممارستها لجز الرقاب بالسكين في العراق وسوريا مثلا، لا بد أنك - أو أي فرد سوي - ستتساءل عن أسباب هذا الانفصام بين دين سماحة معلن، وممارسات باسم الدين فيها كل هذه البدائية والوحشية!

بداية، من غير الطبيعي أن يستطيع الإنسان قتل أخيه الإنسان إلا من خلال مشروع ثقافي ينقل العدو خارج فضاء الإنسانية، حيث كان الرجل الأبيض مثلا يقتل الرجل الأسود في أميركا القرنين السابع عشر والثامن عشر بعد أن تحوله الثقافة السائدة إلى أقل من إنسان (subhuman). السلوك نفسه كان موجودا في جنوب أفريقيا ما قبل مانديلا، حيث كانت ثقافة الدولة ترى الأسود في إطار الحيوان، وبهذا يتقبل الإنسان قتل أخيه الإنسان ولا يعذبه ضميره، لأنه نقله من الحالة الإنسانية إلى الحالة الحيوانية.

ولو نظرنا إلى ما تفعله الجماعات المتطرفة باسم الدين من قتل للإيزيديين وسبي لنسائهم، أو ما فعلوه مؤخرا بالدروز في سوريا، نجد أن بداية مشروع القتل هي إخراج هذه الطوائف والملل والنحل خارج عالم الإسلام وإدخالها في عالم الكفر، وبهذا يرضى ضمير الإنسان، وهو هنا ضد طبيعته، القتل كأمر مقبول.
ثقافتنا اليوم، وبما لا يقبل الشك، وإن كان المتطرفون بعيدين عنها إلا أنها لا تبتعد عن ثقافة المتطرفين كثيرا.

إن المسافة بين المتطرف وغير المتطرف عندنا في رؤيتهما للآخر المغاير هي مثل الفرق بين القتل والجلد، وكلاهما عنف. التطرف اليوم، ورمزياته ولغته، هو المرجع الثقافي لنا. نختلف ونتفق مع المتطرفين على أرضيتهم، أرضية التطرف، أي نحتكم إلى الكتب ذاتها، وفي الأخير نقول إنها أزمة تفسير النصوص.

لا تفسير للقتل خارج القانون لا بالدين ولا بالثقافة، فالدولة هي الوحيدة المخولة باستخدام العنف على أراضيها، أما إذا نافستها في ذلك مؤسسات أخرى فهنا نحن أمام حالة تفسخ الدولة.

إن السياق الحاكم لما يحدث وقبوله هو ثقافي في المقام الأول، فالثقافة الحية هي القادرة على الرفض بصرامة لما هو خارج عن منظومة قيمها. أما إذا ما تقبلت ثقافة ما ذلك الذي ترفضه قيمها فتأكد أنها ثقافة مأزومة أو في قلب الأزمة.

ما نشهده اليوم هو حالة مثاقفة بين مساحات التطرف، ويخرج جوهر ثقافتنا العربية والإسلامية خارج هذا الفضاء. إن لم نكن قادرين على استعادة هذا الفضاء من المتطرفين فسنسبح جميعا في بحر التطرف، أو بركة التطرف الآسنة، ولأن الناس لا يشمون العفن إذا ما تعودوا عليه، فإننا بعد أعوام قد لا ندرك أننا نسبح في بركة التطرف العطنة، ولا يشتم هذا العطن إلا قادم من بعيد ومن حضارة أخرى. وللأسف عندما يقولون لنا ذلك إما نتهمهم بالاستشراق أو بالغرور الحضاري. نعم هناك غرور حضاري، ولكن هذا لا يعفينا من أن ثقافتنا وحضارتنا الآن في أزمة حقيقية.

arabstoday

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 03:56 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 03:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 03:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 03:42 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 03:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 03:37 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

فلسطين وإسرائيل في وستمنستر

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أزمتنا حضارية أم سياسية أزمتنا حضارية أم سياسية



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 20:58 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الأميركي يقصف مواقع عسكرية في صنعاء

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

موسكو تسيطر على قرية بمنطقة أساسية في شرق أوكرانيا

GMT 14:19 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إلغاء إطلاق أقمار "MicroGEO" الصناعية فى اللحظة الأخيرة

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

وفاة جورج إيستام الفائز بكأس العالم مع إنجلترا

GMT 17:29 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

سائق يدهس شرطيا في لبنان

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إصابات بالاختناق خلال اقتحام الاحتلال قصرة جنوبي نابلس
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab