أنا كنت في باريس، وحاجز على نفس الطيارة، وألغيت في آخر لحظة»، بماذا يمكن أن تصف شخصا يتحدث بهذه النرجسية العالية، وكأنه مركز الكون للتعليق على كارثة الطائرة المصرية التي سقطت في المتوسط وعلى متنها 66 روحا بشرية لديهم ذووهم من المكلومين؟ لا يهم كل هذا الموت والحزن على الضحايا؛ إذ مطلوب منا أن نحتفي بنجاة سيادته. هذا ليس قول رجل بسيط، بل كلام شخصية عامة يفترض أن تكون قدوة. وبماذا تصف ثقافة يظنها المتحدث تتقبل هذا النوع من العبارات السوقية؟؟ هل حضارتنا وصلت إلى قاع الانحطاط الثقافي، أم ما زال هناك دور أسفل يمكن أن نهبط إليه؟ عندما يتناسى شخص مأساة البشر وتتملكه نرجسية مفادها أن الشمس تدور حوله، وأن العالم لا يعنيه 66 روحا قضت في مياه المتوسط، وأن القصة هي أن فلانا ألغى رحلته في آخر لحظة؛ فنحن بلا شك أمام ثقافة مريضة تحتاج إلى نقاش جاد لتقويمها. ليس كافيا أن نصف هذا الحديث بـ«السوقية» (vulgar)، نحن أمام حالة «وحشي الكلام» كما يقول ابن المقفع. وصف هذا بكلام سوقي لم يعد كافيا.
المشكلة من وجهة نظري ليست في المتحدث، بل في المستهلك، فعندما يأمن شخص أن تعليقا كهذا سيجد قبولا في حضارة ما، فالمشكلة في تلك الحضارة المستهلكة لهذا النوع من نفايات الحديث، وليست مشكلة الشخص نفسه.
في الأمم الأخرى هناك اتفاق ضمني على مجموعة قيم حاكمة، لا يمكن للفرد تجاوزها، ويبقى في مأمن من التقريظ الاجتماعي والنقد، أما في ثقافتنا العربية فأستطيع القول: إنني فشلت في فهم القيم الحاكمة لثقافتنا. أعرف أن هناك من يصف هذا بالمبالغة أو جلد الذات، ولكن كنوع من التمرين الذهني أدعو القّراء إلى عّد القيم الخمس الحاكمة للثقافة العربية اليوم، أي ما النقاط الأخلاقية التي متى ما خرج الفرد عنها، أصبح كالجمل الأجرب وتلفظه الجماعة؟ هل هناك مثلا خمس أو ست قيم يمكن أن نقول عنها إنها المحددات الرئيسية لثقافتنا؟ أتمنى أن يجّرب وزراء الثقافة ومعهم القادة الاجتماعيون، التمرين الذهني نتحدث كثيرا بلغة دينية عن الحلال والحرام، الذي لم يعد ضميرا ذاتيا بقدر ما هو حلال وحرام اجتماعي، أي نفعل كذا وكذا في وجود الناس، ونفعل العكس في غيابهم. لم يعِد الناس يراقبون الله بقدر ما يراقب بعضهم بعضا. أما في حالة المثال الذي ذكرته في أول المقال، فقد وصل بعض منا لتجاهل رقابة الناس والذوق العام.
لم يعد هناك مجال في هذا المقال للحديث عّمن نحَر خروفين لنجاته من الطائرة، بسبب غلطة في حجز الطيران، أو الخبير العسكري الذي يقول إن أميركا أسقطت الطائرة «بالنبضة الكهرومغناطيسية»، فالمشكلة ليست في المتحدث، بقدر ما هي مشكلة إعلام سقط في مستنقع الجهل، ليردد هذه الأقاويل، أو يعّد ما هو مجرد هراء أنه رأي يستحق أن ينشر على العامة من الناس. هل من المبالغة أن نطلب محاكمة أصحاب الفضائيات ولو اجتماعيا، على كمية النفايات التي يصبونها على المجتمع كَّل يوم؟
إن استهداف طائرة مدنية من قبل دولة، أميركا أو غيرها، أمر يعّرض قادة هذه الدولة للمحاكمة، أو يخرجها من عالم الإنسانية. فالمذيع أو المذيعة التي تقبل رأيا مثل هذا وتعرضه على العامة، لا يمكن وصفه بالجهل فقط، بل بالغباء أيضا. نحتاج إلى نفضه حضارية لكي نزيل هذا «الوسخ» الذي علق بثقافتنا مؤخرا.
إن النشر على العامة في كل بلدان الدنيا له قواعد حاكمة، وهناك توقيتات محددة لما يمكن نشره خلال ساعات، حتى لا يتعرض الصغار إلى الاضطراب النفسي. وأي اضطراب في حالتنا!!
فلماذا لا نناقش في كل مؤتمراتنا عن الإعلام حالة التوحش، وليس فقط السوقية التي تسري في ثقافتنا كما النار في الهشيم؟ ولماذا لا تجبر جامعة الدول العربية أعضاءها على الالتزام بقوانين صارمة لعقاب المؤسسات الخارجة عن تلك القيم؟
لا يخلو يوم في أحاديث الغوغاء عندنا من التشدق بثوابت الأمة، فهل هناك من يخبرني ما هذه الثوابت في ظل تفشي السوقية ثقافًة، ووحشي الكلام أسلوَب حياة؟
في بداية ستينات القرن الماضي ساد الحديث عن «الإنسان الجديد» (The new man) المنوط به بناء الدولة الحديثة، إنسان متشبع بالقيم الجديدة لوجوده داخل دولة لا قبيلة. ترى ما القيم التي سلحت به دولنا الإنسان الجديد، إنسان ما بعد القبلية والقيم الخاصة المنغلقة، الإنسان الذي يؤمن أنه جزء من دولة وليس من مدرسة «أنا ومن بعدي الطوفان»؟
حضارتنا العربية اليوم وصلت لدرجة من الانحطاط الثقافي الذي يحتاج إلى نقاش جاد، وعندنا الكثير من العقول القادرة على رسم ملامح الخروج من هذا المستنقع، فقط نحتاج إلى رشد الدولة القادرة على وضع هذه العقول إلى جوار بعضها للحديث عن المخرج ورسم ملامح القيم الجديدة.
لدينا مئات المؤتمرات كل أسبوع تنفق عليها الدول الكثير، ولكن في معظم هذه المؤامرات يختلط الهزل بالجد فيفسده. نحتاج إلى عقول ترسم ملامح الخروج، وليس إلى موظفين وشلل تستغرق ساعات طوال في الحديث عن «لا شيء» (pure nonsense).
معيار اختيار المتحدثين عن هذه القضايا لا بد أن يتغير؛ كي نصل إلى مصاف الدول المتحضرة، فما نحن عليه من حال أمر جّد مخيف. إننا أمام لحظة انهيار حضاري، ومن لديه شك يعود ويقوم بتحليل محتوى لما كتب عن حادثة الطائرة المصرية مثالا، أو أي حادثة أخرى. ليس لدي شك في أن كثيرا من قادتنا لديهم النية
في الارتقاء بمجتمعاتنا، ولكن الأجهزة تبدو وكأنها قاصرة. لا يكفي أن نكرر كل يوم أن «أمورنا طيبة» وأن الأمة بخير ونحن ننحدر.
الثقافة العربية بوضعها الحالي تحتاج إلى منظومة قيمية حاكمة، وتحتاج أيضا إلى وقفة للخروج من عالم التوحش إلى عالم الحضارة.