بقلم ـ عبد الباري عطوان
اعلن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في لقاء مع الصحافيين امس ان بلاده تعتزم ان تتقرب تدريجيا من إسرائيل ومصر والسعودية بعد فتحها صفحة جديدة من العلاقات مع الامارات بعد زيارة الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي لأنقرة قبل أسبوعين، ولكن التمنيات شيء والواقع على الأرض شيء آخر مختلف تماما من الواضح ان الرئيس اردوغان يريد العودة بشكل متدرج لسياسة “صفر مشاكل” مع الجيران التي خطفتها منه دولة الامارات وباتت تطبقها حاليا في المنطقة العربية، بعد اتفاق مصالحة العلا الخليجية المصرية مع دولة قطر مطلع هذا العام، والانفتاح على كل من سورية وايران وتركيا والانسحاب سياسيا من ليبيا، ولكن ما كان يصلح قبل عشر سنوات، او بعد انحسار موجة “الربيع العربي”، وتراجع الإسلام السياسي، وتدهور الأوضاع الاقتصادية التركية، وتقدم احزاب المعارضة في استطلاعات الرأي، سيجعل هذه العودة صعبة، ان لم تكن مستحيلة، ولعل التصريحات التي ادلى بها بالأمس كمال قلجدار اوغلو زعيم الحزب الجمهوري المعارض، وذكّر فيها الرئيس اردوغان بفشل سياساته بقوله “ماذا حدث لرابعتك واخوانك المسلمين، وماذا يعني تطبيعك مع دولة (الامارات) اتهمتها بدعم الانقلاب العسكري”، تعكس الشكوك الكبيرة داخليا، وربما خارجيا، بإمكانية تحقيق هذا التوجه القديم المتجدد، فمياه كثيرة مرت تحت هذا الجسر.
الهدف الرئيسي لسياسة الرئيس اردوغان “التراجعية” عن سياسة “المناكفة الإقليمية، وفتح العديد من الجبهات دفعة واحدة، هو توثيق العلاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، ويتضح ذلك من خلال المكالمتين “الحميميتين” مع كل من الرئيس الإسرائيلي اسحق هرتزوغ ورئيس وزرائه نفتالي بينيت اللتين اجراهما بعد الافراج عن زوجين إسرائيليين اعتقلا بتهمة التجسس حيث حرص على التأكيد على رغبته بتطوير العلاقات بين البلدين، وتوثيق التعاون المشترك الذي سينعكس استقرارا على منطقة الشرق الاوسط برمتها، حسب الرواية الرسمية التركية، ولعل حالة “الفتور” في العلاقات مع حركة “حماس” وتقليص أنشطة عناصر حركة الاخوان المسلمين وتكتيم افواه منابرهم الإعلامية مؤخرا بعض الأمثلة تقارب الرئيس اردوغان مع دولة الامارات حقق له إنجازا كبيرا بإسكات سادات بيكير، احد ابرز زعماء المافيا، الذي كان يبث “فيديو اسبوعي” من أبو ظبي يكشف فيه فضائح الحزب الحاكم والطبقة المحيطة بالرئيس المالية والشخصية وتهريب المخدرات، مدعومة بالوثائق، فقد توقف عن هذا البث كليا بعد بدء التقارب التركي الاماراتي، ولم يبث سادات أي فيديو منذ اكثر من أسبوعين، وقد يُبعد من الامارات قبل ان يزورها اردوغان في شباط (فبراير) المقبل، الى جانب صندوق استثماري اماراتي بقيمة عشرة مليارات دولار، ولكن هذا المبلغ كان مخيبا للآمال، لان الإعلان عنه لم يوقف انهيار الليرة التركية، بل زاده تدهورا، وتجاوز سعرها حاجز الـ13 ليرة مقابل الدولار.
اما دولة الامارات التي تطمح الى إبعاد الرئيس اردوغان عن دعم حركة الاخوان وفك ارتباطه بالإسلام السياسي، وشراء بعض شركات القطاع العام التركية، والعسكرية منها خاصة اسوة بمنافستها دولة قطر (اشترت شركة انتاج دبابات)، فحققت معظم مطالبها مستغله ازمة الاقتصاد التركي، مضافا الى ذلك استخدامها تركيا كورقة ضغط على مصر والسعودية معا، خاصة ان علاقاتها، أي الامارات، مع البلدين ليست في افضل احوالها هذه الأيام، والمعلومات المتوفرة لدينا من مصادر دبلوماسية وثيقة تؤكد ان هناك حالة استياء مصري من زيارة ولي عهد ابوظبي لأنقرة، وتقديم المليارات لدعم الاقتصاد التركي الرئيس اردوغان سيزور أبو ظبي في شهر شباط (فبراير) المقبل، وهناك اعتقاد بانها ربما تكون غطاء او مقدمة، لزيارة القدس المحتلة، التي قد تتلوها، لان التطبيع الرسمي مع القاهرة التي تتقارب حكومتها بشكل متسارع مع سورية، وتنتظر نتائج الانتخابات الليبية والدور التركي فيها، وما يمكن ان يتلوها من احداث “دراماتيكية”، قد يتأخر كثيرا لانعدام ثقة القيادة المصرية بالرئيس اردوغان، والتشكيك بنواياه الحقيقية، خاصة تجاه الابتعاد عن الإسلام السياسي، علاوة على إقامة تحالفات وثيقة مع اليونان قبرص سياسيا وعسكريا، وارث الصراع التاريخي بين مرجعية الازهر ومرجعية إسطنبول السنية.
اللافت ان الرئيس اردوغان يريد التطبيع والمصالحة مع كل اعدائه وخصومه، وتقديم التنازلات غير المتوقعة لهم، باستثناء جارته السورية، التي يمكن ان يؤدي التطبيع وحل الخلافات معها الى إيجاد حلول لمعظم ازماته الحالية، الداخلية والخارجية، المالية والاقتصادية، فبينما تسير عملية الانفتاح العربي على دمشق، والخليجي خاصة، بسرعة غير متوقعة هذه الأيام (باستثناء قطر) يتصلب الرئيس التركي في مواقفه، ويرفض كل الضغوط في هذا الاتجاه، بما في ذلك الروسية، ولا يريد ان يسمع اسم “سورية الأسد” مطلقا من أي شخص كان الدكتور حسن محلي الكاتب المتخصص في الشأن التركي، والعلاقات التركية السورية على وجه الخصوص، فسر موقف اردوغان هذا بالقول بأنه، أي اردوغان، وقع في حفرة لا يستطيع الخروج منها، فماذا سيفعل بأكثر من 100 الف سوري من حلفائه ويحظون بدعمه المالي في ادلب ومناطق اخرى في شمال سورية، الى جانب 35 الف مسلح من الشيشان، علاوة عن الآلاف من مقاتلي الايغور والتركمان والاذريين وفوق هذا وذاك اكثر من تسعة ملايين مواطن سوري من بينهم خمسة ملايين لاجئ في تركيا نفسها، فالمصالحة تعني استيعاب تركيا لأعداد كبيرة من هؤلاء اللاجئين والمسلحين، وهذا امر مستحيل بالنسبة له، ومقدمة لثورة ضده، خاصة ان العداء العنصري التركي للسوريين يتصاعد بشكل لافت هذه الأيام.
الأشهر الـ 18 التي تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية التركية ستكون صداعا مقلقا للرئيس اردوغان، فالمعارضة تسيطر على المجلس البلدي في اكبر عاصمتين، إسطنبول الاقتصادية، وانقرة السياسية، واسهم اكرم امام اوغلو عمدة إسطنبول مرشح المعارضة المحتمل للرئاسة في ارتفاع، ولعل المظاهرة الضخمة التي ستنطلق غدا في مرسين هي بدايات التحرك المنظم ضد الرئيس اردوغان وحزبه، وديكتاتوريته، وسوء ادارته، حسب تصريحات المنظمين. “السنوات العشر” المجيدة التي حقق فيها حزب العدالة والتنمية انجازاته الاقتصادية والسياسية الضخمة، برئاسة اردوغان تتآكل بسرعة، والفتاوى التي يصدرها بعض “المشايخ” حول “خطوته” الجديدة بمكافحة الربا لم تقنع أحدا، وكانت مصدرا للسخرية، فالاقتصاد التركي الرأسمالي قائم على الفائدة منذ استقلال البلاد قبل مئة عام، وديون تركيا التي تبلغ حوالي 480 مليار دولار ليست ديونا وفق الشيعة الإسلامية معفاة من الفائدة، والبنوك التركية في معظمها بنوك ربوية، وتخفيض سعر الفائدة من 19 الى 15 بالمئة لا يعني ان الاقتصاد التركي بات إسلاميا صرفا، وغير ربوي.
الازمة الاقتصادية هي التحدي الأكبر للرئيس اردوغان وحزب العدالة والتنمية، فالفقراء الذين يشكلون حاضنته الحزبية الاضخم يتعاملون بالليرة التركية، ولا يعرفون شيئا اسمه الدولار، هم الخاسر الأكبر من انهيارها المتواصل، وارتفاع نسبة التضخم الى اكثر من 20 بالمئة يجعل ظروفهم المعيشية صعبة للغاية، اما الرابح الاكبر فهم القطط السمان، الذين لا يتعاطون بها، ومعظم حساباتهم البنكية بالدولار واليورو يبدو ان العشرية الاردوغانية المجيدة تقترب من نهايتها، حسب آراء معظم الخبراء الاقتصاديين الاتراك الذين اتصلنا بهم، والاشهر القادمة التي ستسبق انتخابات عام 2023 ستكون صعبة على تركيا وشعبها، وحافلة بالمفاجآت غير السارة، سواء عادت العلاقات مع مصر والامارات او إسرائيل.. فقد سبق السيف العذل.. والله اعلم.