بقلم : د. مارغو حداد
كأننا في زمن يشبه الوهم، حيث يتقدم من لا يملكون سوى كلمات خاوية، ليتحدثوا باسم الغيب، ويملأوا فضاءنا بصدى لا يحمل معنى. ينصبّون أنفسهم سادة المستقبل، وهم لا يفقهون من الحاضر شيئًا. هؤلاء، الذين يظهرون على الشاشات وفي زوايا المنصات، لا يحملون علمًا ولا خبرة، بل يجيدون لعبة الصخب والتخدير.
يتنبأون بالخراب، بالزلازل والبراكين، وكأنهم يحملون مفاتيح القدر. يزرعون الخوف، ويستنزفون عقولنا بتوقعاتهم المصطنعة، متناسين أن كتاب السماء أغلق أبواب الغيب عنهم، ليحفظ للعالم طمأنينته. هؤلاء، ليسوا سوى انعكاس لعصر يحتفي بالضجيج أكثر مما يحتفي بالمعرفة، ويفتح الأبواب لمن لا يملك سوى العبث.
في جامعات العالم، تُدرَّس مواد النقد والتحليل في مختلف المجالات كالأدب، السياسة، الاقتصاد، الإعلام، والفنون، لتعليم التفكير المنهجي وفهم الواقع بأسس علمية.
هناك، حيث يُصنع الفكر، يُعلَّم الإنسان كيف يقرأ الحاضر بفكر متّزن، وكيف يستشرف المستقبل بأدوات العلم، لا بأوهام التخمين. التحليل ليس تجارة، بل هو علم يتطلب بحثًا ودراسة، وجذورًا عميقة في الفهم.
ولكن ماذا فعلنا نحن؟ تركنا الساحة فارغة، فدخلها هؤلاء الذين لا صلة لهم بالعلم. جعلنا الميكروفون سلاحًا في أيدي من لا يعرفون، وسمحنا لكل هاتف أن يتحول إلى منصة لبث الرعب والخرافة. نحن من استبدل التحليل بالهذيان، والتخطيط بالصراخ، والعقل بالعشوائية.
ألسنا نحن الملامين؟ كيف نصمت، ونحن نرى أوطاننا تُدار بأيدٍ تجهل معنى المسؤولية؟ كيف نثق بمن يتحدث عن الحروب والكوارث، وهو لا يملك سوى كلمات جوفاء؟ نحن من فتح لهؤلاء الأبواب، ونحن من سمح لهم بأن يجعلوا من الخوف سوقًا، ومن الجهل سلعة.
الزمن لا ينتظر أحدًا. إن لم نستفق الآن، وإن لم نغلق هذه النوافذ التي ينفذ منها العبث، سنبقى رهائن للخوف، ضائعين في دوامة لا نهاية لها. المستقبل لا يُبنى بأصوات تصدح دون علم، ولا بأيدٍ تجهل الطريق. المستقبل يُبنى بالمعرفة، بالعلم، وبأصوات صادقة، تقرأ الحاضر لتصنع الغد.
يتصدرون المشهد بلا خجل، يحجزون لأنفسهم مكانًا على أهم المنصات، يتحدثون بجرأة عن المستقبل دون علم، وكأنهم يمتلكون مفاتيح الغيب. أين نحن في هذا العصر؟ كيف أصبح الصوت الجاهل هو الأعلى؟ لقد غاب العلم وابتعدت المعرفة، وأصبح الضجيج هو السمة. نحن في زمن تتراجع فيه الحكمة، ويصعد فيه من لا يستحقون الظهور. لا أفهم كيف وصلنا إلى هذا الحال، وكيف أصبح هؤلاء المجهولون أسيادًا على الحقيقة.
علينا أن نختار، بين أن نبقى متفرجين على هذا العبث، أو أن نعيد للعقل مكانته، وللعلم صوته، وللمستقبل أملًا لا يصنعه سوى من يؤمنون به حقًا. المستقبل لا يُقرأ، بل يُبنى، ولا يبنيه إلا من يفهم كيف يُصنع الحاضر.