بقلم : عبد الله السناوي
يصعب أن يصمد طويلًا اتفاق وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية. قبل أن يجف حبره اخترقت التزاماته.. وثغراته قد تفضى إلى تقويضه.
«لا يعنى وقف إطلاق النار إنهاء الحرب، وقد يكون قصيرًا». هكذا تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو بعد يومين من خطاب النصر، الذى أعلن فيه وقف إطلاق النار أو «الهدنة المؤقتة» بمعنى أكثر واقعية.
حاول فى ذلك الخطاب أن يضفى على نفسه صفة «المنتصر»، لكنه عاد ليعترف أمام الكاميرات بما معناه أن موافقته على وقف إطلاق النار كانت اضطرارية حتى يمكن إعادة تسليح الجيش بما يحتاجه من عتاد وذخيرة!
لم تقتنع أغلبية الإسرائيليين، حسب استطلاعات الرأى العام، بأن هناك نصرًا تحقق، رغم فوارق السلاح والاغتيالات، التى نالت من قيادات حزب الله، والتهديم الواسع لمبان ومواقع فى العاصمة بيروت والجنوب اللبنانى.
الحروب تقاس بنتائجها السياسية. لا حزب الله تقوض ولا مخزونه التسليحى نفد، ولا سكان الشمال عادوا إلى مستوطناتهم بأمان حتى الآن، كما تعهد سابقًا.. ولا كان ممكنًا إنشاء حزام أمنى بذريعة حماية أمن الحدود الإسرائيلية.
الصور لخصت مفارقات الحرب. ابتهاج لبنانى واسع بوقف إطلاق النار وعودة تلقائية إلى الضاحية الجنوبية وبلدات الجنوب وعلامات النصر ترفع.. يقابله شعور طاغ بخيبة الأمل فى أوساط مستوطنى الشمال لعدم تمكنهم من عودة مماثلة، وجدل محتدم حول النتائج الحقيقية للحرب.
إننا أمام شعب يحب الحياة رغم تعب الحرب وانقساماته الداخلية.. وآخر لا يشعر بالأمن رغم إنجازاته العسكرية التكتيكية، التى لم تسفر عن تغيير كبير فى موازين القوة.
بقوة الحقائق لم يكن هناك طرف منتصر وآخر مهزوم فى هذه الحرب. حالة اللا نصر واللا هزيمة تؤسس لحرب جديدة بعد وقت أو آخر.
لماذا وافقت إسرائيل، اليوم وليس قبله، على وقف إطلاق النار مع حزب الله فى لبنان قبل أن تحقق أهدافها المعلنة؟ هناك مجموعة من الأسباب المتداخلة:
أولها، الحالة التى وصل إليها الجيش الإسرائيلى من إنهاك فى حربى غزة ولبنان وحاجته إلى التقاط الأنفاس، فضلًا عن مشاعر الإحباط والخوف، التى أصابت المجتمع كله من وصول صواريخ ومسيرات حزب الله إلى مواقع عسكرية ومدنية حساسة.
ثانيها، نجاح المقاومة بسرعة لافتة فى امتصاص الضربات القاسية، التى قضت على أغلب هيكله القيادى، وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله، كما إثبات قدرته على إلحاق الألم بالطرف الآخر.
ثالثها، الوضع الداخلى اللبنانى الضاغط من أجل وقف الحرب. لم ينفجر لبنان من الداخل خشية الاحتراب الأهلى وإدراك غالبية اللبنانيين ممن يختلفون مع الحزب أن إسرائيل تستهدف وجود البلد واحترامه سيادته، لكن تناقضاته لاحت على مرمى البصر منذرة بما قد يفضى إليه أى حساب لا ينظر فى الحقائق حوله.
رابعها، خشية استصدار قرار أممى بوقف الحرب قبل أن تنقضى ولاية الرئيس الأمريكى الحالى جو بايدن حتى يحسن من صورته، التى تقوضت تمامًا بأثر تورطه الكامل فى حربى غزة ولبنان. اللافت هنا أن الرئيس المنتخب دونالد ترامب أكد أولوية وقف الحرب فى لبنان فور أن يدخل البيت الأبيض. الضغط الأمريكى حاضر، لكنه لم يكن العامل الحاسم.
خامسًا، الحسابات الإيرانية المتداخلة فى الملف، التى تنظر فيما يمكن أن يحدث تاليًا، وبالأفق ملامح سيناريو غربى يميل إلى الاحتواء بدلًا من الصدام مقابل خفض التصعيد فى الشرق الأوسط. الحسابات المتداخلة أفضت إلى وثيقة وقف إطلاق النار بالصيغة التى خرجت بها. وفق نصوصها فإن هناك تنازلات جوهرية اضطر إليها حزب الله أهمها وأخطرها: «يحتفظ الطرفان بحق الدفاع عن النفس ضمن أطر المواثيق الدولية». كان ذلك النص- بالذات- محل اعتراض واسع من جميع الأطراف اللبنانية، حيث يعطى رخصة لإسرائيل بالتدخل العسكرى فى أى وقت وانتهاك الأجواء اللبنانية باسم حقها فى الدفاع عن نفسها، وهو حق عهد عنها التوسع فى تعريفه بما ينتهك كل القوانين والمواثيق الدولية، كأنها دولة فوق القانون.
الكلام عن أن لبنان له نفس الحق مراوغة مع الحقائق، فالوثيقة نفسها تتبنى استراتيجية كاملة تفضى إلى تفكيك جميع المنشآت غير القانونية المعنية بإنتاج الأسلحة.. وتفكيك البنى التحتية والمواقع العسكرية ومصادرة أية أسلحة غير قانونية لا تتماشى مع هذا الالتزام.
إذا رد حزب الله بقوته الصاروخية، فهذا خرق لالتزامه بوقف إطلاق النار، والكلام عن أن هذه مهمة الجيش لا محل لها فى ظروفه الحالية.
بأى نظر موضوعى فهذه وثيقة سيئة تفتقد إلى التوازن وتجحف بحق لبنان. إنها أقرب إلى «وثيقة إذعان» تمنح إسرائيل بالتفاوض ما لم تقدر عليه فى الميدان والالتزام بها يستحيل بأى حساب.
هذه المرة لم يخرج حزب الله منتصرًا على النحو الذى حدث فى حرب يوليو (2006) ومكنه من تكريس صورته ونفوذه. لم يهزم لكنه لم ينتصر.
الاختبار الحقيقى الذى ينتظره أمام الخروقات الإسرائيلية المتواصلة.. مدى قدرته على ضبط النفس والحفاظ فى نفس الوقت على ثقة جمهوره وأنصاره. أسوأ ما يترتب على وقف إطلاق النار: إنهاء الإسناد اللبنانى للفلسطينيين فى غزة. أوقفت الحرب على جبهة الإسناد الأساسية وبقيت جبهة غزة وحيدة فى العراء الاستراتيجى العربى.
عندما بدأت الحرب على لبنان سُحبت فرق وألوية عسكرية من غزة إلى الشمال وصدرت تصريحات إسرائيلية تقول إن عملية غزة أنجزت مهامها وأن الحرب فيها أصبحت ثانوية. خالفت الحقائق التصريحات، ودخلت إسرائيل فى حرب استنزاف منهكة بالقطاع المعذب. فور الإعلان عن وقف إطلاق النار، رغم الخروقات، عاد التركيز مجددًا على غزة التى لم ترفع الرايات البيضاء رغم ما تتعرض له من حرب إبادة وتجويع.
ما الذى قد يحدث غدًا؟ هذا هو سؤال مصير القضية الفلسطينية إلى آماد طويلة مقبلة.