بقلم : فاطمة ناعوت
ليس الشعراءُ وحدهم مَن لا يهرمون ولا يموتون، بل كذلك متذوقو الشعر وداعموه لا يموتون، فلو للشعراء نصيبٌ فى إيقاظ ضمير المجتمع، فإن داعمى الشعراء هم سدنةُ حصن ذلك الضمير والقابضون على جمرته لئلا تخبو.
نحن الليلة فى قاعة «إيوارت» بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، نطفئ الشمعة الحادية عشرة على رحيل «الفاجومى»، نرى ملامحه فى وجه كريمته المليحة «نوّارة نجم» وهى تقدّم الحفل، وننصتُ إلى أصواتِ شعراء شباب حملوا مشعله الوقاد. تختلفُ بصماتُ أصواتهم، ويجمع بينهم عشقُ الوطن العظيم الذى عشقه «نجم» وكتب فى عينيه أحلى قصائده. (مصر يا امّة يا بهيّة/ يا أم طرحة وجلابيّة/ الزمن شاب وانتى شابّة/ هو رايح وانتى جاية)، تأملوا عبقرية المعنى واللعب بالكلمات!. تظنُّ الشاعرَ يقولُ إن الزمان «شابٌّ» يتغزَّلُ فى محبوبته الشابّة مصر، ثم سرعان ما تنتبه أن الزمانَ «شابَ»، أى طاله المشيبُ، فى حين تظلُّ مصرُ شابّةً لا تعرف الهِرَم. مصرُ العريقة التى رافق ميلادُها ميلادَ الزمان، تقفُ تتأملُ الزمانَ الهَرِمَ وقد داهمه الشيبُ ويسعى نحو الزوال (هو رايح).. لكن زهوة الصِبا لا تبرحُ جبينَ مصرَ الآتيةِ بكامل عنفوان شبابها: «جايّة فوق الصعب ماشية». لا يشبعُ الإنسانُ من سماع تلك الكلمات النجمية بصوت ونغم «الشيخ إمام»، فتُجبر الخواطرُ المكسورة. لهذا يظلُّ «نجم» و«الشيخ إمام» شابّين عَصيّين على الموات، مهما شابَ الزمانُ.
نحن على شرف «جائزة أحمد فؤاد نجم لشعر العامية المصرية»، التى أطلقها المهندس «نجيب ساويرس»، فى ديسمبر ٢٠١٤ فور رحيل «نجم»، حتى يظلَّ اسمُه حيًّا فى مسابقة حيّة، مثلما تظلُّ قصائده حيّةً فى ضمائرنا وفى قلب مصر. وفى كلمته بالأمس فى حفل إعلان أسماء الفائزين فى المسابقة، قال «نجيب ساويرس» إن «نجم» معنا بكامل حضوره وسوف يظلُّ موجودًا ونظلُّ نجتمعُ على شرفه فى هذه المسابقة السنوية التى تسعى للحفاظ على ماء شعر العامية المصرية شلالًا لا ينقطع برحيل أحد أربابه. وحكى د. «محمد العدل»، من مجلس أمناء المسابقة، عن ميلاد فكرة الجائزة يوم عزاء «أحمد فؤاد نجم» يوم ٣ ديسمبر ٢٠١٤، حين همس «نجيب ساويرس» فى أذنه بأنه قرر تدشين مسابقة باسم الفاجومى تُمنح لشباب شعراء العامية المصرية. وظنَّ «العدل» يومها أن حزن «ساويرس» على صديقه جعله يتمنى تخليد اسمه على أى نحو، وسرعان ما سوف تشغله المشاغلُ عن الفكرة. لكن ها نحن نحتفلُ بالدورة ١١ من مسابقة لم تتوقف عامًا واحدًا؛ رغم ما مرّ بمصر والعالم من أزماتٍ وجوائحَ ومحن أوقفت كبريات الأنشطة الثقافية فى مصر والعالم. هذا ما قصدته حين تكلمت عن «رُعاة الثقافة» الجادّين الذين يعرفون أهمية الثقافة والفكر والفن والأدب وحجم الدور الحيوى الذى تلعبه القوى الناعمة فى النهوض بالمجتمع والحفاظ على صحوة ضميره. والحقُّ أن «عائلة ساويرس» لها باعٌ أصيلٌ وثقيلٌ فى دعم الثقافة والفنون والتعليم والآداب فى مصر من خلال مبادرات عديدة يصعب ذكرها جميعًا فى مقال. منها مبادرة ترميم المتاحف والمعالم الثقافية فى مصر للحفاظ على التراث المصرى، ومنها رعاية الفنون التشكيلية بدعم الفنانين التشكيليين وتدشين معارضهم، ومنها الاستثمار فى التعليم بدعم البرامج التعليمية والثقافية، وتمويل المنح الدراسية للشباب الواعد، ومنها «جائزة ساويرس الثقافية» التى أطلقتها «مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية» لتشجيع الإبداع الأدبى فى الرواية والقصة القصيرة، ومنها «مهرجان الجونة السينمائى» الذى يعدُّ أحد أهم المهرجانات العالمية فى السينما، ومنها هذه الجريدة الجميلة «المصرى اليوم» التى دشّنها عام ٢٠٠٤ المهندسان «صلاح دياب» و«نجيب ساويرس» لتكون، وسوف تظل، صوتًا جسورًا حرًّا لا يميل ولا يخضع. جميع تلك المشاريع المشرقة وغيرها تشهد على عمق إيمان «آل ساويرس» بأن الثقافة والفنون الرفيعة هما صخرةُ التنمية المجتمعية التى يتكئ عليها الوطنُ لكى ينهض، وهما المشعل الذى ترفعه مصرُ عاليًّا ليظلَّ ضوؤها ساطعًا على الساحة الإقليمية والعالمية، لا يذوى. ولهذا نحتشدُ فى قاعة «إيوارت» التى وُلدت عام ١٩٢٨ لتُخلّد اسم «وليم دانكان إيوارت»، رجل الأعمال الذى دعم الثقافة والتعليم فى مصر فى أوائل القرن العشرين.
جائزة «أحمد فؤاد نجم» ليست تكريمًا لاسم شاعر عملاق، بل هى منبرٌ راسخٌ يُعيد للعامية المصرية ألقَها كصوت شعبى يحمل أحلام الناس وهمومهم. تُكرّم الجائزة إرث شاعر جعل من الكلمة البسيطة ثورةً، ومن القصيدة الشعبية نضالًا. إنها شهادة للروح المصرية التى تحول الكلمات إلى لوحات ترسم نبض الشارع وسحر تفاصيله اليومية. تُعززُ الجائزة مكانة الأدب، وتشجع الأصوات الشابة على الانطلاق بجسارة فوق جسر يربط ماضى الكلمة الثائرة بحاضر حاشدٍ بالتحديات والأمل، ويؤكد أن الشعر الشعبى يظل دائمًا ضمير الأمة وسلاحها.