حدوتةُ الحاج «مدبولى» ٢

حدوتةُ الحاج «مدبولى» (٢)

حدوتةُ الحاج «مدبولى» (٢)

 العرب اليوم -

حدوتةُ الحاج «مدبولى» ٢

بقلم : فاطمة ناعوت

أستكملُ معكم ما بدأتُه فى مقالى يوم الخميس الماضى من حدوتة «الحاج مدبولى»، الناشر الشهير، الذى اختطفته حبائلُ الشغف بالكتاب، وهو بعد صبىٌّ صغير فى السابعة من عمره، يوزّع الصحف والمجلات على عربة خشبية صغيرة يجولُ بها فى شوارع القاهرة، فيتحوّل مع الأيام إلى واحد من أهم ناشرى وموزعى الكتب فى العالم العربى، ثم يتجاوزُ تلك الخانة نحو مدى أوسع حتى يعتبره المثقفون المصريون والعرب أحدَ «صنّاع الثقافة والفكر»، الذين ضحّوا بالجهد والمال والعمر والحرية والأمان من أجل حماية المفكرين والذود عن أفكارهم وآدابهم من الملاحقات والمصادرات التى يفتعلُها أعداءُ الفكر والحرية، حتى تصلَ إلى مُبتغاها الأخير وهو: «عقل القارئ»، حتى لقّبه المثقفون بـ«وزير ثقافة العرب»، واحتلَّ اسمُه موسوعة «أعلام مصر فى القرن العشرين»، الصادرة عن وكالة أنباء الشرق الأوسط.

«محمد مدبولى»، الذى علَّم نفسَه بنفسِه القراءةَ والكتابة من عناوين الصحف التى كان يحملها إلى النوادى الاجتماعية ومقار الجاليات الأجنبية فى أربعينيات القرن الماضى، كان زبائنه يسألونه عن عناوين كتب وروايات، فيبحث عنها بشغف الصياد الباحث عن طرائده، حتى عرف طريقَه إلى دور النشر العربية الشهيرة فى لبنان وبغداد وسوريا عطفًا على الدور المصرية. ثم راح يتعرّف، بحِسّه الفطرى وذاكرته اليقظة، على إيقاعات «شغف القارئ»، ومتى يكونُ الكتابُ «حيًّا» يطلبُ قارئيه، أو راكدًا ميّتًا لا يعبأ به أحدٌ حتى يبلى فى غباره. هذا الرجل الفريد الذى يُعدُّ ظاهرة ثقافية مصرية تستحقُّ التأمل والدراسة، والذى كُرِّم فى العديد من دول العالم، بعدما تحول من منتهى البساطة إلى منتهى الشهرة والنجومية فى محافل المثقفين، لم يتنكّر يومًا للجلباب الشعبى الذى كان يسافر به إلى عواصم العالم العربى والأوروبى ليقف على رأس جناح «مكتبة مدبولى» فى معارض الكتب، يُسلّم الكتابَ إلى مريده بنفسه، كان محطَّ أنظار جميع الكتّاب الشباب. أذكرُ أننى التقيتُ به فى بدايات مشوارى الأدبى بعد صدور كتابى «الكتابة بالطباشير» عن دار شرقيات، وهو كتاب عن علاقة «العمارة» بالفلسفة بالفنون الستّة خلال الانتقال من الكلاسيكية إلى الحداثة وما بعدها. ذهبتُ إلى المكتبة فى ميدان «طلعت حرب» والتقيتُ بالحاج مدبولى ووقفتُ أمام كتابى المعروض على أحد رفوف المكتبة وقلبى يخفقُ. جاء الحاجُّ وتناول الكتاب وراح يتصفحه ويمرُّ على عناوين الفهرس بعين العارف الخبير، ثم قال: «كتابك القادم نطبعهولك إن شاء الله». ولم أصدّق فهتفتُ بفرح: «بجد؟!»؛ لأننى أعلمُ أن «مدبولى» لا يطبع إلا للكبار الوازنين، فكيف يتحمّسُ لكاتبة تتلمس خطاها الأولى ولم تُصدر بعدُ إلا كتبًا ثلاثة، حينها؟! لهذا اعتبرتُ كلمته من قبيل التشجيع المعنوى؛ ولم آخذها مأخذ الجد. لكننى علمتُ من أساتذتى الأدباء أن هذا الرجل يزن كلماته بميزان الذهب ولا يجاملُ فى «الكتاب» الذى يعتبره «شرف الإنسان». وتأكد هذا حين التقيتُ به فى مصادفات عديدة بعد ذلك وكان يصافحنى ببِشر قائلًا: «فين المخطوطة؟!» ولكن للقدر خُططه. فلم يتحقق حلمى بالنشر لدى مدبولى إلا قبل أيام قليلة، فطبعتُ كتابين دفعة واحدة. الأول هو: «محاكمة القمح» وهو حوار تخيّلى مع صديق افتراضى «متطرف وإقصائى»، والكتاب الآخر هو: «صهواتُ الخيول»، وهو حوارات قديمة، وطازجة أجرتها الروائيةُ الكويتية الشهيرة «فاطمة يوسف العلىّ» مع عمالقة الفكر والفن مثل «يوسف إدريس، توفيق الحكيم، صلاح طاهر، محمد جبريل، محمد عبدالقدوس، مصطفى محمود، نزار قبانى» وآخرين على جريدة القبس فى ستينيات القرن الماضى.

ومثلما يلاحقُ المتشددون المتطرفون، فى كل زمان ومكان، فرائدَ المفكرين والأدباء الذين لا يكتبون على «مازورة» الرجعية، فإن ناشرى الكتب الجسورين الذين يطبعون لأولئك المفكرين ينالون نصيبهم من الملاحقة والعنت والاغتيال الأدبى. لهذا حُوكم «الحاج مدبولى» بتهمة «ازدراء الأديان»، الحصان الأسود لدى تجار الدين، ووقف على باب السجن، لكن كبار المثقفين فى مصر والعالم العربى دعموه وساندوه احترامًا لمكانته فى الحراك الثقافى العربى.

يتبقّى أن أسجّل امتنانى لصديقى الراحل الكاتب والسياسى الوطنى الطبيب «محمود العلايلى» الذى تحمس لكتابى «حوار مع صديقى المتطرف» الذى كتبتُه خلال حكم الإخوان فى ذلك العام الحزين، وطبعته عام ٢٠١٦، وأوصانى بإعادة طباعته لأهميته وتنبيه النشء القادم بمخاطر الإخوان. وفى صباح حار من صباحات إبريل الماضى عطّل «محمود العلايلى» جميع أعماله الصباحية فى الحزب والعيادة، وانتظرنى فى «مكتبة مدبولى» الشهيرة بميدان «طلعت حرب»، مع العزيز «محمود مدبولى»، حامل مشعل أبيه «الحاج مدبولى»، واستلم منى مخطوطة الكتاب الذى أخذ عنوان «محاكمة القمح»، وكتب مقدمته المفكر الإصلاحى والطبيب د. «حسام بدراوى».

تحية احترام لروح «الحاج مدبولى»، ولابنه المهندس «محمود مدبولى» الذى ضحّى بعمله الهندسى المرموق ليحمل مِشعل أبيه ويكمل رسالته من أجل عيون «الكتاب».

arabstoday

GMT 06:57 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

سبع ملاحظات على واقعة وسام شعيب

GMT 06:46 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

المالك والمستأجر.. بدائل متنوعة للحل

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 06:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

أوهام مغلوطة عن سرطان الثدي

GMT 06:31 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

من جديد

GMT 06:29 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

GMT 06:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

لقاء أبوظبي والقضايا الصعبة!

GMT 06:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الفاتيكان... ومرثية غزة الجريحة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حدوتةُ الحاج «مدبولى» ٢ حدوتةُ الحاج «مدبولى» ٢



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 20:51 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أشرف حكيمي يمدد عقده مع باريس سان جيرمان حتي عام 2029

GMT 18:53 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض

GMT 09:37 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ثوران بركاني جديد في أيسلندا يهدد منتجع بلو لاجون الشهير

GMT 22:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 11:06 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

مستشفى كمال عدوان بدون أكسجين أو ماء إثر قصف إسرائيلي مدمر
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab