في كتابه «عقدة الذنْب البيضاء» يشرح الكاتب الأميركي شبلي ستيل كيف أن العنصرية التي عانى منها المجتمع الأسود تحولت إلى أكبر أزمة حلت به، وجعلته يتراجع على مستويات عديدة، حيث معدلات الدخل الأقل، ونسبة الدخول في السجن الأكثر، والطلاق الأعلى، والتخرج في الجامعة الأدنى (يشكل المجتمع الأسود نسبة 13 في المائة من المجتمع الأميركي، ومع هذا نسبتهم في السجون تصل إلى 38 في المائة)
ولكن ما هي عقدة الذنْب البيضاء؟ ماذا حدث بالضبط وأدى إلى كل ذلك؟ والسؤال الأهم: ما هي العقد الثقافية التي نعاني منها في مجتمعاتنا؟
عقدة الذنب البيضاء هي إحساس المجتمع الأبيض بالذنب مما فعله أسلافه في المجتمع الأسود من فصل عنصري وتفرقة، ولهذا أقدم على تنازلات وخطوات عديدة يبعد بها عن نفسه هذه التهمة المشينة، ولكنها في النهاية أضرت قبل ذلك بالسود قبل غيرهم.
من هذه التنازلات، البرامج الاجتماعية التي طرحت في الستينات لمحو الفقر، وصرفت عليها مليارات الدولارات، ولكنها أخفقت ليس في القضاء على الفقر، بل ساهمت في ترسيخه أكثر؛ لأن هذه البرامج كانت عبارة عن تعويضات مالية عما حدث في السابق وتكفير عن الذنوب، ولكنها أدت إلى قتل الطموح والعزيمة في الأجيال الجديدة التي اعتمدت عليها ورسخت لديها الإحساس بالمظلومية.
وتشير الأرقام إلى أن العائلة في المجتمع الأسود في أثناء قسوة العنصرية في النصف الأول من القرن العشرين كانت أكثر قوة وتماسكاً؛ لأنها كانت تعتمد على ذاتها وتصارع للبقاء والنجاح في ظروف تقف ضدها، ومعدلات البطالة بينها منخفضة وكذلك الجريمة. كل ذلك تغير في عقد الستينات حيث قفزت معدلات الجريمة وتفككت العائلة، وانهار المجتمع تقريباً حتى هذا اليوم.
ويذكر الكاتب نظام قبول المؤسسات الجامعية نسبة من الطلاب، ليس بناء على درجاتهم بل بسبب عِرقهم، ولكن هذا يدمغ الطلاب السود المتفوقين فعلاً وغير المحتاجين لمساعدة بدمغة مشينة أنهم أقل من زملائهم. لماذا تفعل هذه الجامعات العريقة ذلك؟ حتى لا تتهم بالعنصرية، وأنها غير مختلطة عرقياً حتى لو دمرت بذلك إحساس الطلاب بأنهم دخلوا بمجهودهم، الأمر الذي يخلق إحساساً بعدم وجود العدالة لدى الطلاب الآخرين الذين يرون أن آخرين تلقوا معاملة تفضيلية بسبب لون بشرتهم.
كل هذا الانهيار حدث أمام أعين المسؤولين في الحكومة والكتّاب والباحثين ومحطات التلفزيون، ولكن لا أحد قادر على فعل شيء. لماذا؟ لكيلا يتهم بالعنصرية، والأسوأ من ذلك أنهم استخدموا الداء ووصفوه دواءً. مع كل تدهور جديد لا يتحدثون عن الحقيقة ولكن يقولون إن العنصرية هي السبب، مما عقد المشكلة وزاد من الإحساس بالمظلومية حتى تحولت إلى ثقافة راسخة يصعب تغييرها.
وهذا ما نراه في الاتهامات غير الصحيحة لعنصرية الشرطة في الولايات المتحدة التي يخطئ بعض أفرادها، ولكنها كنظام غير عنصري.
الكاتب يقول إن هذا هو الوجه الأول من المشكلة، أما الوجه الآخر فهو من طرف المجتمع الأسود نفسه الذي طالب بشجاعة بالحرية والمساواة لعقود طويلة حتى تخلص من العنصرية البغيضة، وفعلاً حصل على ما يريد. ماذا حدث بعد ذلك؟ لا شيء مما كان يتخيله. الحرية لا تعني أي شيء إذا لم تكافح وتعمل بجد وتبني مستقبلك، أصابته الخيبة. ويقول الكاتب إن عامل القمامة قبل الحرية اكتشف أنه سيظل عامل قمامة بعد الحرية، ولا شيء تغير. ولكن الوضع الآن صعب ومؤلم؛ لأن من السهل سابقاً أن تشير بإصبعك إلى عوائق تحد من النجاح، ولكن الآن لا توجد. لهذا أصبح الناس يبحثون عن العنصرية في كل مكان لتبرير الفشل والإخفاق، وتحولت ثقافة المظلومية والإحساس بالضحية إلى ثقافة مترسخة وأزمة عميقة تسحب المجتمع للأسفل، ولا تجعله يواجه نفسه ويعترف بأخطائه.
ولكن الأمر ليس بهذه السهولة التي نتصورها؛ لأن هذه الثقافة ولدت حراسها والمنتفعين منها الذين يستخدمون بطاقة العِرق لضمان إعادة انتخابهم أو التكسب منها مادياً وجماهيرياً، في الوقت الذي يتم فيه تجاهل شخصيات مثل ستيل، وهو أسود وعانى هو نفسه وكذلك عائلته من العنصرية ولا تسمع أصواتهم لأنه مصدر إزعاج لهذه الثقافة التي تحولت إلى مكاسب وبضاعة رابحة. ويقول الكاتب إنه لن يتغير شيء إذا لم نغير هذه العقد البيضاء ونتوقف عن استخدام سلاح العنصرية والابتزاز العاطفي.
هل يذكركم هذا بشيء؟
تذكروا الثقافة التي يروجها المتطرفون أن المسلمين يتعرضون للاضطهاد والتمييز وترديد الأكاذيب بأن هناك حرباً على الإسلام، رغم أن المسلمين يعيشون في الدول الغربية بسلام، ويمارسون دينهم بحرية. لماذا؟ لأن تعزيز الإحساس بالمظلومية وبث روح الكراهية يعززان سلطتهم ويدعم آلية التعبئة والتجييش حتى لو كان على حساب أجيال صاعدة فتية تزرع لديها بذرة العزلة، وبدل أن تبحث عن العيب في ذاتها لتصلحه تبحث عنه في الآخرين. وفي ثقافة تشعر بالمظلومية وتحتفي برموزها ليس غريباً أن نرى شباناً مسلمين نابهين يتحولون إلى مقاتلين وأدوات في يد التنظيمات الإرهابية.
أيضاً من يتحدثون عن الاستعمار في كل أمر، وأنه سبب الفشل، رغم أن الاستعمار انتهى من عقود طويلة. مثل عذر العنصرية لدى المجتمع الأسود، الاستعمار لا وجود له ولكن أصبح يُدسّ في كل مشكلة واستُخدم كشماعة للإخفاق، واختُرعت له أسماء وهمية مثل الإمبريالية الحديثة والاستعمار الجديد.
والشيء نفسه حدث في فرنسا. قبل أسابيع سمعنا عذر التهميش وعنف الشرطة، ولكن الحقيقة أن الأسباب الثقافية هي التي تجعل أقليات تنجح في أي مجتمع، وأقليات تتراجع، ولهذا تبحث عما يريحها عاطفياً ويعفيها من المسؤولية، ولكن يضرها أشد الضرر واقعياً. ونحن مثل المجتمع الأسود، إذا لم نتغير ثقافياً سنكون كمن يطلق النار على نفسه، وهو يعتقد أنه يطلق النار على أعدائه المتخيلين.