بقلم : حنا صالح
على مسافة نحو أسبوعين من 9 يناير (كانون الثاني) الحالي، الموعد المحدد لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية وإنهاء الشغور الذي مضى عليه 26 شهراً، تقدمت الفيتوات التي تغطي نيات الاستئثار، وبات الموعد في مهب رياح مصالح ضيقة. لا نية لدى الكتل النيابية الطائفية على إخراج البلد من المستنقع. الكل يتربص بالكل، وتدعيم المواقع وحجم الحصص يحددان أداء كل الفئات، والبلد أنقاض.
ومع نفاد 30 يوماً من مهلة الشهرين المحددة في آلية تنفيذ القرار الدولي 1701 بوصفها مرحلة وقف نار تجريبية، يتعثر التنفيذ ويتأخر تسلم الجيش جنوب الليطاني. ويتظهر عجز بقايا السلطة عن تحمل مسؤولية تثبيت وقف النار. فتمضي إسرائيل في التجريف وتفجير العمران المتبقي في البلدات الحدودية، وبعمق 5 كلم لفرض حزام أمني كأمر واقع، يقابل ذلك باعتراضات رسمية إعلامية فلكلورية.
لا وقت للترف، حياة اللبنانيين ومصير البلد ومستقبله على المحك. الكثير متوقف على إنهاء الشغور. ليكون بالإمكان تشكيل حكومة كفاءات قادرة على استعادة الثقة والاحترام لتخوض مواجهة دبلوماسية سياسية لإجلاء المحتل وتثبيت وقف النار وتنفيذ القرار الدولي كاملاً وفق الآلية المعلنة لتنفيذه، وتلافي خطر تجدد العدوان، فتستعيد الدولة القرار، وتُحصر القوة بيد الشرعية، وينتهي دور السلاح اللاشرعي.
منذ عام 1975، دخل لبنان زمن التصحر مع قبض زعماء ميليشيات الحرب على القرار؛ كل في منطقة تسلطه. وإثر مقتل رئيس الطائف رينيه معوض، والانقلاب على الدستور، صنّع الوجود السوري قيادات مرتهنة من ميليشيات الحرب والمال، فتكت باللبنانيين وتسببت في هجرات متواصلة، وتمَّ تغييب السياسة والسياسيين لتبرز شخصيات وضيعة، قال عنها الرئيس الهراوي إن «ركابهم اهترت من الزحف إلى عنجر»، مكان إقامة «المتصرف» ممثل النظام السوري. وبعد «انتفاضة الاستقلال» وذعر القوى «الآذارية» الطائفية من المطالبة بدولة طبيعية بديلاً عن الدولة المزرعة، بدأ زمن «الاتفاق الرباعي»، وبعده «اتفاق الدوحة» عندما حلّ «حزب الله» في موقع «متصرف» عنجر! آل ذلك إلى مرحلة شهد فيها المواطن ساسة فُرضت عليهم عقوبات دولية يفاوضون على مستقبل البلد، ومدعى عليهم بـ«جناية القصد الاحتمالي بالقتل» في جريمة تفجير المرفأ، يقودون لجنة الإدارة والعدل البرلمانية، ويدعون على قاضي التحقيق.
إثر «ثورة» الـ1958، تسلم الرئاسة فؤاد شهاب الرؤيوي فبنى دولة المؤسسات، وأُنيطت السلطة بسياسيين كبار عارضهم كبار. هذا الأمر لم يعرفه لبنان في كل مراحل ما بعد الحرب الأهلية، فتسعى المنظومة المتسلطة آخر عقدين، رغم تسببها بنهب البلد وإفقار أهله، وتغطيتها حرب «حزب الله» الكارثية، إلى رئيس على مقاس مصالحها، واجهة بروتوكولية لا يملك القرار، له باع في مآسي الحاضر.
أمام الفرصة التاريخية لاستعادة الدولة وبسط السيادة، وبدء زمن الإصلاح السياسي والاقتصادي، نرى أن «الثنائي المذهبي» «أمل» و«حزب الله»، يضع فيتو على قائد الجيش العماد جوزف عون الشخص الذي يحوز مقبولية شعبية. هما كثنائي يسعيان إلى تكريس مكتسبات في السياسة والاقتصاد، وخصوصاً النقد، انتزعت بفعل دورهما في برمجة الشغور الرئاسي والفراغ في السلطة وتجويف المؤسسات. يريدان صفقة تكرس بقاء المالية من حصتهما المذهبية، وحصر إعادة الإعمار بمجلس الجنوب، فيعطى سلطة فوق السلطة التنفيذية، فيعاد تثبيت المنحى الزبائني والتسيب ليبقى البلد في الحضيض! بالمقابل فإنه في زمن تلقي «حزب الله» ضربة قاسية، وتصدع الهلال الفارسي ومحوره الممانع، هناك قيادات طائفية تبدو كمن قفز إلى الوراء، إلى ما قبل الطائف، يرددون أنهم على حق، وفي جعبتهم للبنانيين خيارات بمعايير تلك المرحلة لتبدو مشروعيتهم في العمل السياسي تستمد من ماضي الحرب، منفصلة عن واقع البلاد وما يتطلبه الحاضر والمستقبل. وفي الحالتين يدور التنافس على تعويم نظام المحاصصة بديلاً عن بناء دولة القانون والعدالة!
«لا حل إلا بالدولة». دار الزمان دورته، واللبناني اكتوى بنار «حلول» من خارج الدولة. ولبنان الذي يعيش في منطقة الزلازل والتغيير الكاسح، متاح له بجهد حقيقي ومسؤول الشروع في الانتقال من حال إلى حال. وحتى يكون الأمر أكثر وضوحاً، فإن شعار «لا حل إلا بالدولة» الذي أطلقه «المنبر الوطني» وكان شعار زمن «انتفاضة الاستقلال» وزمن ثورة «17 تشرين»، ويلهج به اليوم كُثُر تجاوزوا الانقسامات الطائفية، يكتمل بشعار «إعادة تكوين السلطة» التي من المفترض أن تنبثق من انتخابات نيابية مسبقة تلي الرئاسيات. هنا التحدي بالذهاب إلى تلاقٍ مع قوى التغيير والنخب ذات المصلحة بإنقاذ لبنان، يبلور سويةً المسار المفُضي إلى قيام «كتلة تاريخية» عابرة للطوائف ومؤهلة لتقديم البديل السياسي، عن منظومة انتهت صلاحيتها الوطنية مصابة بـ«غرغرينا» قاتلة.
سقط نظام مكبس الجثث، والنظام الإيراني يتجرع كأس السم. سيكون من خارج مسار التاريخ، أن يتمكن ودائع طغاة سوريا وحلفائهم وأدوات الهيمنة الإيرانية من تجديد نظام المحاصصة الطائفي الغنائمي، وإعادة تكوين السلطة خدمة لتسلطهم وحماية لمصالحهم!