بقلم - حنا صالح
«تكمن الأزمة تحديداً في أن القديم يحتضر، بينما الجديد لا يستطيع أن يولد بعد، وفترة الالتباس هذه بين العتمة والنور تظهر شتى أنواع الأمراض».
هذا القول المأثور لأنطونيو غرامشي، تذكره المتابعون لمجرى أحداث يوم 23 الجاري الذي شهد الاستشارات النيابية الملزمة التي أجراها الرئيس ميشال عون، وأسفرت عن إعادة تكليف نجيب ميقاتي تأليف أول حكومة بعد الانتخابات النيابية، وآخر حكومات عهد الانهيارات والارتهان!
حصل الرئيس المكلف على 54 صوتاً فقط من أصل 128، أي ما يعادل 42 في المائة من أعضاء المجلس النيابي، هي نسبة هزيلة والأدنى في أي تكليفٍ، ليتكرس بذلك تمديد زمن حكومات الانهيار والفشل، وبروز انعدام الثقة بالمتسلطين، وتأجيل التحول السياسي أو منع مروره، وفق ما نادت به الأكثرية الشعبية في ثورة «17 تشرين». تحول سيبقى معلقاً طالما أن التحالف المافياوي المتكئ على بندقية لا شرعية، ما زال قادراً على التحكم في البلاد ورقاب العباد، وقد شكّل شخص ميقاتي نقطة التقائهم وهو المرشح الصريح باسم الثنائي المذهبي «حزب الله» و«حركة أمل» وتعداد نواب كتلتيهما نحو 31 نائباً!
لقد كشفت الاستشارات الملزمة عن هريان الطبقة السياسية وتشرذمها، مع تصويت 46 نائباً بأوراق بيضاء أو «لا تسمية»، ما شكل شعبياً خيانة غير مسبوقة لأمانة أودعها المقترعون لدى من انتخبوا لتمثيلهم. وشكل أيضاً إلغاءً لأصوات مئات ألوف المقترعين، من قبل كمٍّ من النواب، أظهروا لامبالاة بأهمية اختيار رئيس حكومة، وبدا أن جدول أعمالهم لا يهدف إلى وضع الصلاحيات الكبيرة المنوطة بالنائب، في موضع الدفاع عن حقوق المواطنين، الذين أفقروا وأُذلوا وانتهكت مصالحهم وكراماتهم.
بالمقابل، نال السفير نواف سلام، القاضي في المحكمة الدولية، تأييد 25 نائباً، فبدا مع تأييد اتجاهات مختلفة فائزاً رغم خسارة التكليف، فماذا فعلت يا نواف ليجتمع معاً ضدك «حزب الله» ومن ادعوا أنهم ضد سلاحه وكذلك الأناني والمتسلق؟ تلاقوا موضوعياً فوق نهاية عهد الانهيارات والارتهان والزمن الأكثر سواداً، زمن القتل بدم بارد، مع تفجير المرفأ الذي تسبب في سقوط 240 مواطناً، وقتل أكثر من 40 في انفجار التليل في عكار، وبقاء جثث نحو 60 مواطناً في جوف البحر منذ أشهر عندما فضّل لبنانيون قوارب الموت على الجحيم اللبناني، والمشترك في هذه الجرائم مصادرة العدالة وحماية الفارين من القضاء!
لقد فتح تبني ترشيح سلام من قبل 10 نواب من ممثلي «ثورة تشرين» الـ13، معركة خيارات سياسية سيادية وإصلاحية، لم تعرفها الاستشارات النيابية لاختيار رئيس حكومة في أي مرحلة سابقة. فخلافاً لمواقف سياسية ضحلة ومكابرة، أحدثت هذه الخيارات السياسية، إرباكاً لكل أطراف نظام المحاصصة الغنائمي، وفجرت تناقضاتهم، فالمعروف عن سلام التمسك بقيام حكومة من مستقلين لا تسميهم أحزاب السلطة، وأولوية الإصلاح الشفاف والعاجل للسياسات المالية، كما «التصدي لعقلية الزبائنية وثقافة المحاصصة التي تسبب الفساد وتستنزف الموارد والطاقات البشرية»، إلى ضمان «استقلالية القضاء»، و«بسط سيادة الدولة على كامل أراضيها». إذ ذاك بدت الاستشارات تحت وطأة هذه الخيارات، أشبه بالامتحان السياسي للنواب كافة، بمن فيهم نواب الثورة. امتحان تناول تحديد التوجه والمسار كما الموقف من كل السياسات السابقة والنتائج التي أسفرت عنها، ليتبين أن خيار الورقة البيضاء، أو التذاكي بـ«اللاتسمية»، عمل أسود، هدف «أبطاله» إلى حماية خيار «حزب الله»، القاضي ببقاء الممثل البارز للكارتل المصرفي في السراي، رغم أنه صاحب الملفات القضائية المفتوحة من بيروت إلى موناكو بتهم تبييض وغسل الأموال!
نجح ميقاتي في الحفاظ على التكليف، لكن الثمن كان كبيراً، ما دفعه للقول إنه ترشح تلافياً لتضارب المواقف بين رئيس حكومة تصريف الأعمال والرئيس المكلف! ولئن أكد أنه غير مستعجل لأي تغيير في الوزراء والحقائب، فلأنه يدرك حجم الصعوبات، وهو العارف بالأمور متيقن أن التكليف فتح باب السباق الرئاسي، مع اختلال التوازن السياسي العام الذي سيفاقم دور «حزب الله»، لأنه يريد حكومة تدير عملية تعيين رئيس جديد للجمهورية (...)، وإن تعذر التأليف سيدفع لتعويم الحكومة الحالية (...) فإن تعذر إشغال رئاسة الجمهورية يستمر ميقاتي «الأمين» على الموقع السياسي الأول، رغم الصعوبات واتساع التناقضات، لأن رئيس الحكومة ليس في وضع القدرة على إنكار ما حملته الانتخابات من تغيير... وليس بوسعه مجاراة بعضهم بالتصرف كما لو أن الانتخابات لم تحدث وأن المحكمة الدولية بقضية الحريري لم تصدر حكمها المبرم!
لقد أطل الرئيس المكلف بخطاب مكرر، معيداً التذكير بوعود الحكومة السابقة التي ظلت حبراً على ورق، لا بل إن وعد التعافي انقلب إلى ضده، والوعد بـ10 ساعات كهرباء منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي تراجع إلى ساعة واحدة. إنه يعرف أن التكليف الهزيل لا يغطي منحى سياسياً بالغ الخطورة، إذ كيف يمكن لحكومة ما قبل الانتخابات، أن تستمر بعدها، وهي التي عمّقت الانهيارات عندما رفعت دعم السلع الاستراتيجية بما فيها الدواء من دون بدائل، وأكملت تبديد المتبقي من ودائع للمواطنين على سياسة تثبيت فاشلة لسعر الصرف، ما فاقم الأزمات. والأخطر أنها استمرت، رغم «اللعي» في المناسبات، في إدارة الظهر لمخطط اقتلاع البلد، وفشلت في الاستفادة من الباب الخليجي الذي فُتح للدعم مقابل اتباع سياسات إنقاذٍ بديلة! ويعرف كذلك، أن ما حملته الانتخابات من تصويت عقابي، وتحفز شعبي، أنهى الأكثرية السابقة التي لم تعد متوفرة ولا تملك القوة عينها في البرلمان ولا الحضور في الشارع.
بين أبرز ما أسفرت عنه نتائج الاستشارات هو أن الحالة الظرفية أتاحت إعادة انتخاب نبيه بري رئيساً للبرلمان للمرة السابعة، لا يمكن تعميمها لأنها لم تكرس أكثرية نيابية لـ«حزب الله». البرلمان اليوم عبارة عن تكتلات يمكن أن يتعمق الصراع بين أطرافها، وسيكون صعباً التحكم في التوجهات كلما كان البرلمان أمام استحقاقات رئيسية، وكلما بادر نواب الثورة لإبقاء قضايا مثل العدالة للضحايا وحقوق اللبنانيين بالودائع والثروة الوطنية وسواها تحت المجهر، وهذا ما تعهدوا به من منبر القصر الجمهوري. فتأثير نواب الثورة يتجاوز عددهم، لأنهم محاطون بأكثرية شعبية متمسكة بسيادة الدستور والقانون ودولة المؤسسات والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص بين المواطنين وفي وطن موحد لا شريك لأحد بالسيادة على أرضه.
تتبلور كل يوم معالم البديل السياسي. ترشيح القاضي سلام لرئاسة الحكومة قلب المشهد، وكشف الكتل المتذاكية وفضح أدوارها في تعميق الانهيار والالتحاق. ولقد تأكد أن انتشال البلد واستعادة الجمهورية المخطوفة بات الممر الإجباري إليه، بلورة تحالف وطني، على شكل «كتلة تاريخية»، تضم التنظيمات السياسية الجديدة وقوى المجتمع الفاعلة من دون أي استثناءات مسبقة ونواتها الأبرز نواب الثورة.