بقلم- حنا صالح
ليست صفرية كلية نتائج «مواعيد أيلول» (سبتمبر) الرئاسية. صحيح أنه لا موعد لجلسة انتخابية في القريب، وربما لن توجه الدعوة لمثلها في الأسابيع المقبلة، لكن التعادل السلبي فرض حاله ما يعني أن صفحة المرشحين جهاد أزعور وسليمان فرنجية طويت دونما حاجة لإعلان ذلك، فيما خيار المرشح البديل معلق!
قالت «مواعيد أيلول» قولها لجهة تأكيد أحجام «معارضة» النظام و«موالاته»، فتكرست قدرتهما على تبادل الفيتو لحجب نصاب الثلثين. وأظهرت أن قوى الداخل وحدها هي إما عاجزة أو غير راغبة بانتخاب رئيس للجمهورية، يقول بعضهم إنه يمكن أن يكون بداية لحل، فيما كل الممارسة السياسية تشي بأن طريق الرئاسة مقفل، فبعد مضي 325 يوماً على الشغور الرئاسي، يلوح في الأفق احتمال تكرار سيناريو الشغور بين الـ 2014 و2016، عندما قال «حزب الله» إما ميشال عون أو الشغور!
تكمن عقدة العقد عند «حزب الله» الذي قال مبكراً إن غايته وجود رئيس في بعبدا «يحمي ظهر المقاومة». ووقف وراء دعوة رئيس البرلمان للحوار، ويقول اليوم «الحوار» وإلا فمعادلة فرنجية أو الشغور، ليتأكد أن هاجسه شراء الوقت علّه يبدل من موقف جبران باسيل فتقوى أوراقه! فيما هو لم ولن يجاهر بحقيقة ما يريد، ويرى أن الرئاسيات محطة لفرض إملاءاته، وما على الآخرين إلاّ «التنبؤ» بطلباته والموافقة عليها!
مفيد التذكير هنا بأنه في محادثات «سان كلو» إثر «انتفاضة الاستقلال»، توّج ممثل «حزب الله» (النائب السابق نواف الموسوي) التنازلات المجانية لـ«الاتفاق الرباعي»، إبلاغ محاوريه، أن «الحزب» سيحل مكان الوجود السوري لجهة الإمساك بقرار البلد وإدارة شؤونه! تطلب بلوغ هذا الهدف، غزوة بيروت في 7 مايو (أيار) 2008، وإطاحة حكومة سعد الحريري وفرض حكومة «القمصان السود»، وصولاً إلى التسوية الرئاسية المشينة في عام 2016، التي سبقها انضمام موقعيها موضوعياً إلى «تفاهم» مار مخايل بين «حزب الله» وميشال عون، ليتكرس بقوة الخلل الوطني بموازين القوى، فتفضي التسوية إلى مقايضة مقاعد في الحكم مقابل إمساك «الحزب» بقرار لبنان!
واهم من يظن أن «حزب الله»، قوة الأمر الواقع، طليعة «فيلق القدس» المناط به إطلاق هيمنة ملالي طهران في الإقليم، بوارد التنازل ولو جزئياً عما بلغه في العهد العوني السابق من دور ومكانة. بهذا السياق فإن المُضمر سلة مطالب تتجاوز شخص الرئيس، وهي الصفقة الحقيقية التي يعمل من أجلها، ولا يضيره تمدد الشغور فمشروعه مستمر ودويلته تتعزز ركائزها، فيما لا مشروع لقوى «معارضة» النظام التي أسفر تقاطعها مع التيار العوني على المرشح أزعور إلى إعادة تأهيل جبران باسيل وتبييض صفحته!
إذا كان «الحزب» يريد من الآخرين التسليم بأن السلاح خارج أي بحث، وأن رئاسة البرلمان من حصة فريقه، وعليهم الإقرار بـ«حقه» بالتوقيع الثالث لوزير المال الذي تم تشبيحه، فيريد انتزاع دور مقرر له بالنسبة إلى رئاسة الوزراء وقيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان ورئاسة مجلس القضاء الأعلى! ويتعامل مع الآخرين «الشركاء» في نظام المحاصصة الطائفي وفق قاعدة «ما لنا، لنا وحدنا، وما لكم، لنا ولكم»، وأغلب الظن أن الآخرين يعرفون ويتجاهلون، ويراهنون على وصفاتٍ يروجونها ويصدقونها مفادها أن تطورات الإقليم ستفرض على طهران فك أسر الرئاسة في تعامٍ عن مخاطر المشروع التوسعي الإيراني!
بعيداً عن الصراع الفوقي بين «موالاة» هي «ممانعة» و«معارضة» أسميت «سيادية»، يتساوى الفريقان في إدارة الظهر لواقع لبنان واللبنانيين. لا يضير الفريق الأول أن الدولة والأرض والشعب في انهيار متدحرج تحت وطأة الإفلاس المالي والاقتصادي والاجتماعي، مع تفاقم الأزمة السياسية الوطنية نتيجة خلل التوازن الوطني. فيما يتحصن الفريق الآخر بالرفض ظناً منه أن ذلك يغطي مسؤوليته الموضوعية عن الفساد والسطو على المال العام والخاص، وانخراطه منذ اتفاق الدوحة في تغطية اختطاف «حزب الله» للدولة!
آخر مثل عن إدارة الظهر لمصالح البلد وحقوق الناس ما حمله لقاء الثنائي إبراهيم كنعان (التيار العوني) وجورج عدوان (القوات اللبنانية) مع بعثة صندوق النقد، فإلى التقاطع مع مصالح «البنكرجية»، بالإصرار على دفن الإصلاحات والاستغناء عن المواكبة الرقابية الدولية لإنقاذ لبنان، حمل اللقاء الذي تم على وقع ترنيمة شعبوية عن «قدسية» الودائع، عناصر انقضاض المنظومة السياسية على أصول الدولة لاستباحتها!
مضر ومدمر التذرع بالانسداد السياسي لتجاهل مسؤولية الحد من تلاشي الجمهورية بترتيب كيفية إدارة الأزمة مع تعذر الحلول. إنها أولوية يفرضها أن «حزب الله» هو الجهة المستفيدة من التعثر، لأنه الطرف الممسك ببقايا السلطة، مع مفارقة أنه بالمباشر غير مطالب بتقديم كشف حسابٍ عن مآلات الانهيارات التي تتسع ويضيع معها لبنان. لا يعيق الشغور مشروعه استكمال اقتلاع البلد، فهو متحكم بقرار حكومة تصريف الأعمال وعمل البرلمان ومهيمن على السلطة القضائية! هذا المنحى كان يمكن كسره لو وجدت قوى تولي أولوية لإدارة الأزمة؟ وكان يمكن عرقلة اندفاعة «حزب الله» لو أصرت هذه القوى على أولوية الإصلاحات التي تبني الدولة وتعطل استمرارية المزرعة؟ وكل المشهد كان يمكن أن يتبدل شعبياً لو اندفعت الأمور إلى خوض المعركة ضد الفساد ولفرض المساءلة والمحاسبة؟
طبعاً كان يمكن، لكن الواقعية تقول إنه بانتظار مواعيد ووعودٍ جديدة، لا الرئاسة تحمل «المن والسلوى» للبنانيين، ولا الطبقة السياسية التي يجمعها نظام محاصصة طائفي غنائمي مقيت أهلٌ لإنقاذ البلد. يدفع اللبنانيون اليوم ثمن «انتفاضة الاستقلال» التي غُدِرت ما أسقط فرصة استعادة التوازن الوطني... لكنهم في انتخابات مايو 2022، أظهروا من خلال التصويت العقابي الجارف استعصاء تطويع «ثورة تشرين» المستمرة كشبحٍ يقلق المتسلطين، ويخط طريق إنهاء الخلل الوطني بموازين القوى، كمعبر ضروري لاستعادة الدولة المخطوفة والدستور وفرض البديل السياسي لإنقاذ يحمي السيادة والتنوع والحريات!