بقلم- حنا صالح
طلبت السلطة من رياض سلامة تثبيت سعر الصرف وتسديد عجز ميزان المدفوعات، وأباحت له بالمقابل أن يفعل ما يشاء!
كانت لرياض سلامة «حسابات أخرى ويتمنى الوصول إلى رئاسة الجمهورية». وكان سلامة «يدوزن الأمور بشكلٍ يرضي جميع الأطراف على حساب المصلحة العامة». يضع هذا القول الإصبع على الجرح لكشفه جانباً رئيسياً من سلوك وأداء حاكم المصرف المركزي، ويكتسب التوصيف أهميته كون القائل هو الرئيس فؤاد السنيورة، الذي عرف سلامة جيداً مذ كان وزيراً للمالية ثم رئيساً للحكومة لأكثر من 12 سنة!
وحتى يكتمل المشهد، فإن أكثر مَن شغل مركز الحاكمية أو أقام في اليرزة قائداً للجيش، انصب اهتمامه على كرسي رئاسة الجمهورية التي شكَّلت بوصلة أدائه. فكان أن استثمرت الطبقة السياسية بطموح شخصيات عدة شغلها «الدوزنة»، ولو تم نهب 100 مليار دولار ودائع للمواطنين، أو «التعامي» عن شحنة موت في المرفأ، لتنجح جهات طائفية ميليشيوية في تحقيق مآربها، على حساب البلد والممارسة اللادستورية.
لذا يبدو أمراً نافراً وصول أربعة من قادة الجيش إلى الرئاسة. لكن لئن التقت الأطراف الداخلية مع النفوذ الخارجي على الإتيان باللواء فؤاد شهاب رئيساً بعد أحداث عام 1958 فكان رجل الدستور، ارتبطت باسمه أبرز إنجازات بناء الدولة الحديثة التي تتسع لمصالح الناس وتصون حقوقهم. وعندما أدرك تعذر البناء مع طبقة سياسية مِن «أكلة الجبنة»، كما سماها، رفض عروض التجديد رغم أن أغلبية الثلثين النيابية ناشدته القبول، فآثر الانسحاب وعاش من «القلَّة»، ولم تتمكن زوجته من بعده من تأمين التدفئة لمنزلها!
لا يسري النموذج الشهابي على الرؤساء - الجنرالات ما بعد الحرب الأهلية. أميل لحود وميشال سليمان وميشال عون. ترأسوا الجمهورية لمدة 21 سنة، ولم يكن وصول أي منهم شبيهاً بوصول شهاب، بل كان الوصول تلبية لمصالح خارجية.
في ولايات الجنرالات الثلاثة بدأ الانهيار يتفاقم، فتلاشت تباعاً المؤسسات وبدأت الدولة تتحلل. الاقتصاد الأسود تجاوز الـ30 في المائة من الناتج العام، وازدهر «الاقتصاد الموازي» لتتبلور تباعاً ملامح نظام هجينٍ بديل كلما تمكنت الدويلة من تعزيز قبضتها. وكانت الذروة بعد عام 2016 مع ترئيس ميشال عون مرشح مصالح «حزب الله»، تماماً كما يقدم «الحزب» اليوم المرشح فرنجية، بوصفه رجل الثقة للدفاع عن السلاح اللاشرعي والبدع التي فُرِضت بقوة الأمر الواقع، كـ«الثلث المعطل» الذي أعطى «الحزب» حق «الفيتو»!
مع بقاء رياض سلامة 30 سنة في حاكمية مصرف لبنان، يكون قد سبقه في الحاكمية أربعة. فيليب تقلا الشخصية السياسية والاقتصادية لم يطرح نفسه للرئاسة الأولى، كذلك فعل إدمون نعيم، رجل القانون والأكاديمي الذي ترأس كلية الحقوق ورئاسة الجامعة اللبنانية، لم يعرف عنه ميل لرئاسة الجمهورية، فحافظ على الودائع في أحلك سنوات الحرب، واشتهر بالقول: لا لطلبات السلطة السياسية. أما الحاكم إلياس سركيس فقد وصل إلى الرئاسة في عام 1976، بعدما خسر عام 1970 بفارق صوتٍ واحد. لكن الرجل الذي نجح في زيادة الاحتياط الذهبي للبنان لم يشكل علامة في الرئاسة رغم الإجماع على نزاهته؛ إذ معروف أنه بعد انتهاء الولاية أعاد إلى الخزينة الجزء الأكبر من مخصصاته الرئاسية، لأنه لم يكن بحاجة إليها. أما الحاكم الآخر الشيخ ميشال الخوري فقد استجاب لطلب رفيق الحريري الاستقالة، قبل سنة ونصف السنة من نهاية ولايته، لأن الرئيس السابق للحكومة كان يحضر للمنصب صديقه سلامة الذي أدار لحسابه أوراقاً مالية في «الميريل لنش». هنا يُحكى أن الحاكم الخوري استقال مقابل وعد بدعمه للرئاسة، لكن مفتاح الرئاسة كان بيد دمشق من دون سواها!
طلبت السلطة من رياض سلامة تثبيت سعر الصرف وتسديد عجز ميزان المدفوعات، وأباحت له بالمقابل أن يفعل ما يشاء! فأدار الظهر لقانون النقد والتسليف، وتجاهل تحذيرات الاقتصاديين من التكلفة الباهظة لتثبيت قيمة الليرة، وكذلك تحميل «مصرف لبنان» أدواراً كبديل عن السلطة، ولا سيما سياسة الدعم التي أفادت أولاً الأوساط الاحتكارية. وبمقابل تركيب المناسبات للإعلان عن نيل الحاكم جوائز الشرف ودروع التقدير، فالمنحى العام لسياسة المصرف انحصر بمديرية القطع وشراء الدولار أياً كانت الخسائر التي تجاوزت الـ30 مليار دولار! وانحصر منذ سنتين ببدعة «منصة صيرفة» التي أهدرت المليارات من الودائع مقابل تثبيت مصطنع مؤقت للسعر!
أسس سلامة لأكبر عملية «بونزي» مصرفية، بالتكافل والتضامن مع كارتل سياسي مصرفي ميليشيوي متسلط. كان يعلم أن ما يزيد على 80 في المائة من النواب ينتمون إلى قوى طائفية مذهبية ميليشيوية مصرفية، سرقوا المال العام وتشاركوا نهب الودائع وانتهكوا السيادة. رأى نفسه محاطاً بالحلفاء - الشركاء الذين سيحجبون عنه أي محاسبة، معتبراً أن هذا المنحى يعجل بوصوله إلى سدة الرئاسة... وبالطريق قاد أكبر عملية خداع عنوانها «الليرة بخير»، وبدد أكثر من 30 مليار دولار بعد انفجار الأزمة عام 2019، ليعجّل الانهيار وتتظهر الفجوة المالية في مصرف لبنان التي فاقت الـ50 مليار دولار!
قبل أيام على موعد مغادرته الحاكمية فشل بعض السلطة، كالثنائي بري وميقاتي، في تمديد ولايته. متسلطون تعاموا عن حقيقة أن هيئة القضايا في وزارة العدل التقت مع القضاء الأوروبي، على الادعاء على سلامة بجرائم نهب وتزوير وتبييض أموال، وصدرت بحقه مذكرات توقيف دولية، لكنه تُرك يحاضر بالعفَّة بعدما حولوا لبنان إلى مرتع مطلوبين ومحكومين فارين من وجه العدالة، وتركوا البلد مسرحاً لفيلم طويل ومدمر!