بقلم - جمعة بوكليب
أخيراً، أدرك مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، ورئيس بعثتها، السيد عبد الله باتيلي، الصباح، فباح غير مرتاح بالمتاح أمام ممثلي الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي مؤخراً، وأعلن على الملأ استقالته، وتنفس الصعداء، واستراح. المبعوث الأممي رقم 8 إلى ليبيا، سنغالي الجنسية، اكتشف متأخراً جداً، للأسف، أنه كان ينفخ في قربة مثقوبة. اللافت للاهتمام، أن الجميع في ليبيا وخارجها، بل وفي أروقة الأمم المتحدة، وفي مكتب أمينها العام، وفي مجلس الأمن الدولي، كانت تلك الحقيقة واضحة في أذهانهم منذ سنوات، ما عدا السيد باتيلي. في تصريح أدلى به لصحيفة فرنسية، اعترف السيد باتيلي بمرارة قائلاً: «أشعر بأنني قبلت أسوأ وظيفة في العالم بعملي مبعوثاً أممياً لليبيا».
حان الآن الوقت لكي يقوم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بتعيين مبعوثه التاسع، أو العاشر... والحقيقة أنه لا توجد أمام المبعوث القادم سوى مهمة يتيمة لا غير، وهي مواصلة النفخ في نفس القربة المثقوبة، كما فعل سابقوه، إلى أن تنفلق رئتاه، ثم تسليمها إلى خلفه، ليتولى عملية النفخ. القربة الليبية أضحت مشهورة. لكن الثقب يزداد اتساعاً مع مرور الوقت، وتغيّر النافخين.
اللاعبُ الدولي الجديد البديل سوف يطفو اسمه على السطح قريباً، ويصل إلى ليبيا، وبمجرد وصوله، سوف يتلقفه بائعو الريح للمراكب من المطار، ويرفعونه في الهواء، ويركضون به وثباً، ولا يتوقفون حتى يضعوه في لعبة معروفة اسمها المحلي «الشقليبة»، ويبدأون فورياً في شقلبته عمودياً، صعوداً وهبوطاً. وبعد أشهر قليلة، ينزلونه منها، من دون أن تلمس قدماه الأرض، ويأخذونه في أغمارهم كي يحشروه جلوساً على كرسي غير مريح في لعبة محلية أخرى اسمها «اللوّيدة»، ويبدأون به عملية اللف والدوران أفقياً، وبسرعة استثنائية، إلى أن يصاب بالدواخ. وحين تتم العملية، ينزلونه منها دائخاً، ويبقى في مكانه غير قادر على الحراك، وكما يحدث لسكران، تتولى الأرض عملية الدوران به في أنحاء البلاد. يفتح عينيه مرة فيجد نفسه في مدينة الرجمة. وبعدها يجد نفسه في «سَط ْ إسمَطْ» وثالثة في جبال أكاكوس... وهلم جراً. لكن الأرض لا تتوقف عن الدوران به، إلى أن يحين الوقت، ويجد نفسه جالساً على مقعد في مجلس الأمن، يقرأ من نفس الورقات التي كتبها أسلافه، متحدثاً للأعضاء عن انزلاق البلاد إلى هاوية الفوضى، بسبب سوء الإدارة، والتدخلات الأجنبية، وانعدام الدعم السياسي والدبلوماسي لبعثة الأمم المتحدة، والساسة الذين لا تهمهم مصلحة البلاد. ويعلن أمامهم استقالته. وحين ينتهي، يغادر الصالة الدولية إلى جُبّ النسيان حيث سبقه السابقون من المبعوثين. وليبيا الوطن والحلم والمستقبل تزداد انقساماً، ونئياً، ويزداد النفق الذي حُشرت فيه قسراً عمقاً وعتمة، وفي ذات الوقت تواصل الدنيا سيرها على سابق حالها، وبإيقاعها المعروف، وكأن لا وجود لليبيا، ولشعبها، وما يعانون من آلام. وحين يرفع أحدنا صوته متسائلاً: «وين السمي يا رايس؟» لا يجد أذناً واحدة مصغية لسؤاله، فيبلع لسانه كارهاً، ويصمت. لكن النهب في أموال البلاد لا يتوقف، ويتواصل تقطيع النسيج الاجتماعي إلى نتف صغيرة، ويستمر تدمير المؤسسات، ويشتد التحارب والاقتتال، حتى تتاح فرصة أمام الأمين العام للأمم المتحدة للظهور مرة أخرى، والتعبير عن قلقه لما يحدث في ليبيا.
ماذا سيفعلُ مبعوث تاسع، أو عاشر، أو عشرون يأتون من بعده، في واقع صار زئبقياً، وفي بلاد تتساقط منهارة، أمام أعين الجميع، قطعة قطعة كل يوم، وفي ثروة تتخاطفها الأيادي نهباً في كل لحظة، من كل الاتجاهات، في وضوح النهار، وفي وضع دولي معقد، ومبتلى بالأزمات، وبالحروب، وليس في قائمة أولوياته مكان لبلد اسمه ليبيا؟
وماذا بمقدور مبعوث أممي فعله، ولا حول له، ولا ميليشيات مسلحة، أو قبّعات زرقاء تسنده، وتشد من عضده، في بلاد تخنقها جماعات مسلحة، وصفتهم السيدة ستيفاني ويليامز، وهي مبعوثة أممية سابقة، باللصوص؟
ولماذا يصرُّ السيد أنطونيو غوتيريش على مواصلة عبث لا طائل منه، بإرسال مبعوثين، من مختلف القارات والجنسيات، كي ينفخوا في قربة هو أول من يعلم أنها مثقوبة؟
السؤال: مَنْ يضحك على مَنْ، وإلى متى؟