بقلم - جمعة بوكليب
حين وصل الائتلافُ اليميني المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو إلى السلطة في إسرائيل، في ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، بدا واضحاً لكل الأطراف أن حلّ الدولتين المنشود لم يعد له مكان على الأجندة الإسرائيلية. نتنياهو، بتعمُّد، اختار النجاة بجلده من مغبة المثول أمام القضاء الإسرائيلي متهَماً بالفساد، وارتضى دفع الثمن بوضع يده في أيدي قادة أحزاب صغيرة متطرفة يؤكدون دوماً استحالة التعايش السلمي المشترك مع الفلسطينيين؛ ولذلك، وضع نتنياهو نصب عينيه، منذ البداية، أن يضرب استقلالية القضاء لضمان حماية نفسه. ذلك التوجّه لم يؤدِّ إلى تحقيق الهدف المطلوب بقدر ما تسبّب في حدوث انقسام داخل إسرائيل غير مسبوق، ويُعزى إليه السبب في الإهمال الأمني الذي تسبب في ما حدث في مستوطنات غلاف غزة.
الضجّةُ التي أثيرتْ إعلامياً في مختلف وسائل الإعلام الغربية لشجب الائتلاف الليكودي مع أحزاب متطرفة تلاشت هي الأخرى بعد أسابيع قليلة. خلالها، كان نتنياهو في تصريحاته يؤكد أن قبضته على الحكومة سوف تكون حاجزاً كافياً يحول دون وقوع أي حوادث من الممكن أن تؤدي إلى رفع درجة حرارة التوتر مع الفلسطينيين أو في المنطقة. لكن ما لم يكن في الحسبان قد وقع في غزة يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي. الآن نتنياهو، استناداً إلى ما يؤكده معلقون سياسيون غربيون وإسرائيليون، يقترب من باب الخروج النهائي، كما خرجت غولدا مائير وحزب «العمال» من الباب نفسه عام 1973.
أحداث غزة التي هزّت إسرائيل والعالم، ووضعت كل المنطقة على شفا حرب إقليمية، كشفت بدورها عما يدبَّر وراء أبواب مغلقة: ترحيل الفلسطينيين من غزة إلى مصر، ومن الضفة الغربية إلى الأردن، في عملية تنظيف عرقي.
قبل الحدث في غزة، قدم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب حبل نجاة لقادة إسرائيل من جميع الأحزاب، عبر ما أطلق عليه مشروع إبراهام. المشروع باختصار يوفر طريقاً قصيرة وماكرة، تمكِّن القادة الإسرائيليين من مناورة الانعطاف وتفادي الجلوس مع الفلسطينيين، والوصول إلى عقد اتفاقات سلام ثنائية مع الدول العربية.
وما حدث يوم 7 أكتوبر الحالي كان بمثابة وضع العصا في الدواليب. وعلى الأرجح أن صفحة مشروع إبراهام طويت، وانتهى غير مأسوف عليه كذلك المشروع الإسرائيلي القائم على ترحيل الفلسطينيين إلى مصر والأردن.
الآن، تبدو الاحتمالات أمام حكومة تل أبيب شديدة الضبابية. حين سُئل الإسرائيليون عن استراتيجيتهم لما بعد الحرب أجابوا بأنهم لم يفكروا في ذلك؛ لأن كل تفكيرهم مُنصبّ على الفوز في الحرب ضد «حماس»، والقضاء على الحركة بما يضمن نهايتها. وحتى الآن، لم يبدأ الغزو الأرضي لغزة بعد، وما زال الطيران الإسرائيلي يحوم فوق أجواء غزة ليلاً ونهاراً، شمالاً وجنوباً، ويقصف المدنيين. من الواضح أن الغضب من هجوم «حماس» على المستوطنات كان الدافع الإسرائيلي وراء الغضب ثم الانتقام لما حدث. والانتقام المدفوع بالغضب قد يقود إلى إنزال خسائر كبيرة بالخصم أو الأعداء وبالبنى التحتية، لكنه لا يقود إلى نصر نهائي يقضي على الخصم بقدر ما يفضي إلى احتمال ارتكاب أخطاء فادحة، واحتمال التورط في إحداث كوارث ليس بمقدور التاريخ تجاهلها. ولعل ما حدث للقوات الأميركية في أفغانستان بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية شاهد. وفي زيارته الأسبوع الماضي لإسرائيل، حاول الرئيس الأميركي جو بايدن تذكير رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بذلك، وتحذيره من مغبة إعادة الخطأ نفسه، إلا أن الأخير غير معروف عنه الإنصات إلى ما يقدم له من نصائح، حتى من جنرالاته العسكريين. اللافت للانتباه أن نتنياهو، استناداً إلى معلقين غربيين، كان طوال سنوات حكمه يتجنب الدخول في حرب مع الفلسطينيين. ويفضل إنزال ضربات قوية وسريعة من الجو وبالمدفعية، ثم العودة إلى القواعد. هذه الحرب لم يخترها نتنياهو إلا أنه بوضع يده في أيدي قادة أحزاب يمينية متطرفة قد مهد لها الأرض، وأعد المسرح، ووجد نفسه مضطراً إليها، لكي يحفر لنفسه مخرجاً في ما بعد من تهمة التقصير التي تنتظره وقت انتهاء الحرب، وبدأت وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية تتناولها منذ الأيام الأولى لهجوم قوات «حماس» على المستوطنات والمعسكرات في غلاف غزة.
النصر النهائي المأمول إسرائيلياً لا يكون إلا بالقضاء نهائياً على حركة «حماس»، وهذا يبدو لكثير من المعلقين العسكريين ليس في المتناول. أضف إلى ذلك، أن عدم وجود استراتيجية إسرائيلية لمرحلة ما بعد الحرب يزيد إرباك الأجواء سياسياً، آخذين في الاعتبار احتمال توسع الحرب إلى الجبهة اللبنانية، وهو أمر محتمل جداً. كما أن القضاء على حركة «حماس» سوف يضع إسرائيل أمام ورطة أخرى تتمثل في القوى السياسية التي ستملأ الفراغ في غزة.