بقلم:جمعة بوكليب
حُسْنُ الحظِّ الذي كان وراء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة باستقلال ليبيا يوم 24 ديسمبر (كانون الأول) 1951، لازم ليبيا فترة زمنية قصيرة نسبياً، ثم تخلى عنها فجأة، وغاب ضائعاً في طرق أخرى بمنعطفات كثيرة. الذكرى الثالثة والسبعون لذلك اليوم البهيج صادفت يوم 24 ديسمبر (كانون الأول) الجاري، مثيرة الآلام في القلوب، وفي النفوس حسرات.
ذلك اليوم البعيد والمجيد، لم يكن هديّة مجّانية كما يظهر للباحثين والدارسين في وثائق الأمم المتحدة، بل جاء عبر نضال سنين طويلة، قضاها الليبيون تحت قسوة ووحشية استعمار أوروبي فاشي، منذ شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 1911، ولم ينتهِ إلا شهر في يناير (كانون الثاني) 1943 بدخول قوات الحلفاء منتصرة إلى طرابلس.
واحد من شعراء تلك المرحلة الشيخ المرحوم أحمد الشارف، خلد ذلك اليوم بقصيدة يقول مطلعها: عِيدٌ عليه مهابةٌ وجلالُ عِيدٌ وَحَسْبُك أنّه استقلالُ.
الاستقلالُ يعني امتلاك شعب لمقدراته، ويعني خلو أرضه من كل ما من شأنه أن ينقص من سيادتها. والسيادة تعني امتلاك القرار. والدولة الناشئة الفقيرة التي ظهرت على خريطة العالم في عام 1951 وحملت اسم المملكة الليبية المتحدة، ولدتْ رسمياً نتيجة خلافات بين دول الحلفاء المنتصرة، أهمها كانت نيّة أميركا وبريطانيا قطع الطريق أمام عودة إيطاليا، ووأد حلم الاتحاد السوفياتي في الحصول على موطئ قدم على ساحل البحر المتوسط.
حين كنّا صغاراً، كان ليوم الاستقلال طعمٌ مميزٌ. وكانت البلاد تحتفل به من أقصاها إلى أقصاها، من دون صدور أوامر عليا تُفرض من فوق. الفرحُ كان شعبياً وتلقائياً وتطوعياً. لكن بعد الانقلاب العسكري في الأول من سبتمبر (أيلول) عام 1969، أُلغيَ عيدُ الاستقلال ولم يعد له وجود. واعتبر قائد الانقلاب المشؤوم أن يوم الأول من سبتمبر 1969 هو الأحق بالاحتفال. وبذلك ألغى بجرّة قلم صفحات ناصعة من تاريخ الشعب الليبي في كفاحه ضد الاستعمار. إلا أن انتفاضة فبراير (شباط) 2011 أعادت الاعتبار لذلك اليوم، ولكن، للأسف، لفترة قصيرة جداً.
وما حدث ليس سرّاً خافياً على أحد. فحالُ ليبيا اليوم مكشوف للجميع. وهو، في الوقت ذاته، لا علاقة له بحُسن الحظّ من سوئه. إذ لا علاقة للحظّ بأنواعه بأمور السيادة.
النتيجة النهائية لما حدث من أحداث وتطورات، منذ القضاء على النظام العسكري في أكتوبر 2011، تؤكد على أن ليبيا فقدت استقلالها، لافتقادها امتلاك القرار السيادي، حتى وإن حافظت على عضويتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية، وحافظت على رفع العلم الثلاثي الألوان فوق المباني الحكومية وفي الشوارع. القرار الليبي لا وجود له. والجيش الليبي لم يعد موجوداً. ووحدة الأرض الليبية تفتت.
الاستعمار الأوروبي التقليدي لم يعد ممكناً في القرن الواحد والعشرين، هذا على الأقل ما يردده المؤرخون وغيرهم. وهو لا يعني أن الاستعمار اختفى، بل ظهر في صور أخرى عديدة. والذين خرجوا من المستعمرات مطرودين، سرعان ما عادوا من النوافذ خلسة، وبأشكال مختلفة، اقتصادية في أغلبها، في العديد من البلدان التي استقلت بعد الحرب العالمية الثانية. لكن في ليبيا بعد عام 2011، عاد الاستعمار بشكله التقليدي القبيح، ممثلاً في وجود قوات أجنبية عدة، تتمركز علناً في قواعد عسكرية، غرباً وشرقاً وجنوباً. والقرار الليبي السيادي المستقل تلاشى هو الآخر، وصار، منذ أعوام، في أيدي حكومات أجنبية. وفقد العلم والنشيد الليبيان معنيهما. وبدلاً من جيش واحد يدافع عن الشعب، ويصون الأرض والعرض، تكاثرت الجيوش على طول الرقعة الجغرافية للبلاد، مثل طفح جلدي، بمسميات مختلفة، ورايات مختلفة، بهدف الدفاع عن المصالح الشخصية والأجنبية، وليس بهدف الدفاع عن الشعب الليبي، وأرضه وعرضه.
فماذا بقي، غير المرارة والحسرة، من معنى للاحتفال بيوم عيد الاستقلال في ليبيا؟