بقلم -جمعة بوكليب
«كلام الليل مَدْهُون بالزبدة» هذا ما يؤكده مثلٌ شعبي ليبي قديم. والمقصود به هنا الجنّة الأرضية التي وُعِد بها البريطانيون خلال حملة استفتاء عام 2016، من قبل قادة أنصار حملة «بريكست»، وأضحت فردوساً مفقوداً.
القطارُ الأوروبي، بعد أن تخلص من حمولة ركابه البريطانيين نهائياً في عام 2020، استأنف رحلته من دون التفات للخلف، تاركاً وراءه البريطانيين على رصيف المحطة في انتظار تحقق جنتهم الموعودة، إلا أن الانتظار طال أكثر من ست سنوات. الآن، بانَ لهم الخيط الأبيض من الأسود، لكن الندم لا يعيد عجلة الزمن إلى الوراء.
بعد انتظار أعوام طويلة، حصحص الحق، وتبيّن للبريطانيين أن انتظارهم الطويل في المحطة لن يأتيهم بنفع. وبعد انقشاع الضباب، اتضح بجلاء أن الطريق قُدماً للأمام من دون علامات ولا خرائط. وأنهم، وهو الأهم والأفدح، قد تُركوا لحالهم، ومن دون مرشدين أو بوصلة.
قادةُ حملة «بريكست» ممن كانوا لا يغادرون شاشات القنوات التلفزيونية، إبّان حملة الاستفتاء على «بريكست» عام 2016، وهم مشغولون ببيع السمك في البحر للمشاهدين، زعموا أن «بريكست» سيعيد لبريطانيا سيادتها، ومجدها التليد، وسيعيد للبريطانيين ثرواتهم المهدورة من قبل أجهزة بيروقراطية مرفهة، تعيش على بعد مئات الأميال بعيداً عنهم في بروكسل. أولئك القادة خرجوا، واحداً إثر آخر، من المشهد، غير مأسوف عليهم، واختفوا مثقلين بخلافاتهم، وبسوء تدبيرهم. نسبة صغيرة منهم، فضلوا الانتظار أمام الأبواب، لعل بارقة أمل أخرى تلوح لهم، وتعيدهم إلى دائرة الأضواء التي طردوا منها.
هناك قناعة تزداد انتشاراً، كل يوم، بين البريطانيين، تؤكد أن بريطانيا خسرت رهانها على «بريكست»، وأن يكون المنقذ لها من جحيمها المَعِيش، ويعيد إليها بعضاً من مجد إمبراطوريتها التي غَرُبَتْ. هناك قلة من عتاة اليمين في «حزب المحافظين»، وتحديداً من المجموعة المسماة مجموعة البحث الأوروبي، ما زالوا يرفضون حقائق الواقع، وما زالوا أسرى دوغمائيتهم، ويظهرون في وسائل الإعلام، بين حين وآخر، مؤكدين أنه لا صحة لما يقال بأن «بريكست» يقف وراء الأزمات الحالية التي تعانيها بريطانيا، ويضعون المسؤولية على أكتاف أزمة فيروس «كورونا». ما كانوا يرددونه من مزاعم، نهاراً وليلاً، بأن «بريكست» سيعيد لبريطانيا سيادتها وسيطرتها على حدودها تبيّن أنه وهمٌ آخر من أوهامهم. أرقام الإحصاءات البريطانية الرسمية تؤكد أن عدد المهاجرين غير النظاميين القادمين من فرنسا عبر بحر المانش إلى بريطانيا ازداد حد التفاقم، ولم يعد حتى في وسع الحكومة البريطانية الإنفاق على إقاماتهم ومعاشهم وعلاجهم، وأن كل الحلول التي صممت لوقف التدفق القادم من الضفة الفرنسية فشلت فشلاً ذريعاً، ما اضطر وزيرة الداخلية السيدة سويللا بريفرمان إلى التفكير في حلول اعتبرها نشطاءُ في حقوق الإنسان متعارضة مع المواثيق والمعاهدات الدولية، الموقعة من قبل بريطانيا، والمتعلقة بمعاملة طالبي اللجوء الإنساني. وهناك بعضٌ آخر يعترف بخجل بفشل «بريكست»، بسبب ما ارتكب من أخطاء، لكنهم من ناحية أخرى يؤكدون أن فكرة «بريكست» ليست سيئة في حد ذاتها. وأن الأصل فيه هو استعادة السيادة وليس الاقتصاد!! ولعل شهادة السيد نايجل فاراج مؤخراً، خلال مقابلة تلفزيونية أفضل وأوضح دليل. السيد فراج كان دائماً وما زال من أشدّ المعادين لوجود بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. وأسس عدة أحزاب وليس واحداً، وبهدف واحد لا يتغير: سحب بريطانيا من بروكسل، لكنه مؤخراً في مقابلة تلفزيونية اعترف علناً بفشل «بريكست»، وأن الحكومة - وليس هو شخصياً - المسؤولة عن ذلك. تبرئة نفسه من الفشل كانت أمراً ضرورياً لأنه سبق له الوعد بحزم حقائبه والرحيل عن بريطانيا نهائياً في حالة فشل «بريكست»! إلا أن أولئك جميعاً، بمجرد سقوط بوريس جونسون المريع، ومن بعده سقوط خليفته السيدة ليز تراس في أسابيع قليلة، وبوصول السيد ريشي سوناك إلى 10 داوننغ ستريت، فقدوا ريشهم الطاووسي الذي كانوا يزهون به في وسائل الإعلام مختالين، وأُبعدَ كثيرون من أقطابهم عن دائرة التأثير في صنع القرار. وما يفعله رئيس الحكومة السيد ريشي سوناك من محاولات لترميم ما تصدع من جسور مع بروكسل، فذلك لأنه أدرك، بما لا يدع مجالاً للشك، أن مواصلة العداء مع بروكسل ليست إلا مضيعة للوقت وللجهد، وأن الأفضل له شخصياً ولحزبه ولكل بريطانيا ترميم الجسور القديمة وإعادة فتحها من الجهتين. عمليتا الترميم والفتح مرهونتان بموافقة بروكسل. وبروكسل تدرك هذه الحقيقة، كما تدرك أيضاً أن المواطنين البريطانيين قد تعرضوا لأكبر عملية خداع. لكنها لا تبدي تعاطفاً ملحوظاً نحوهم. وما قدمته من تنازلات مؤخراً للحكومة البريطانية في تعديل اتفاق شمال آيرلندا، إنما كان بهدف قطع الطريق نهائياً أمام عودة قادة حملة «بريكست» إلى دائرة صنع القرار.
في هذا السياق، يحضرني ما كتبه الكاتب الصحافي سيمون كوبر موجهاً إلى أنصار «بريكست»: «يوجد مصير سياسي أسوأ من الخسارة، وهو أن تفوز بينما أنت على خطأ».