بقلم - جمعة بوكليب
قبل حدوث الاشتباكات المسلحة الضارية، في قلب العاصمة الليبية طرابلس، يوم الثلاثاء الماضي، بين قوات مؤيدة لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، وأخرى تؤيد رئيس حكومة الاستقرار الوطني فتحي باشاغا، من الممكن تصميم إطار عام للمشهد الليبي في بانوراما مُقربة.
شهدت مناطق مختلفة في العاصمة اشتباكات مسلحة بين قوات «النواصي» و«جهاز دعم الاستقرار»، تسببت في مقتل عديد من الأشخاص وجرح آخرين. وفي الفترة الأخيرة، جرت اشتباكات مسلحة أكثر ضراوة، في منطقة جنزور غرب العاصمة. واستناداً إلى ما ذكر في وسائل التواصل الاجتماعي، كانت بين جماعة مسلحة من منطقة جنزور، وأخرى من قبائل ورشفانة. كما انتشرت أخبار عن عودة كوادر من «الدواعش»، شوهدوا في مناطق صحراوية جنوب مدينة سرت، وقاموا باعتداءات. وأخبار أخرى تؤكد عودة قياديين «جهاديين» إلى مدينة صبراتة على بعد 60 كيلومتراً غرب العاصمة. مدينة صبراتة كانت في السابق معقل «الجماعة الليبية المقاتلة»، ثم تحولت بولائها إلى «الدواعش». قوارب مهربي البشر لم تتوقف عن ممارسة نشاطها في تصدير شحناتها البشرية إلى شواطئ أوروبا الجنوبية. وقوافل شاحنات مهربي النفط وقواربهم تزايد نشاطها بشكل ملحوظ. اللافت للاهتمام عودة رئيس حزب «الوطن السيد» عبد الحكيم بلحاج من منفاه الاختياري في تركيا، بعد غياب خمس سنوات، هرباً من ملاحقة قضائية.
على المستوى الاقتصادي، تعرضت الموانئ النفطية للإغلاق، وما زالت، من قبل تشكيلات قبلية تعيش في مناطق إنتاج النفط، تطالب بتوزيع عادل للأموال، وفشل كل المساعي لإقناعهم بالتراجع عن موقفهم. السفير الأميركي ريتشارد نورلاند يقود تلك الجهود مرفوقاً بمستشارة الأمين العام للأمم المتحدة السيدة ستيفاني ويليامز، مع عديد من الشخصيات الليبية. ورئيس البرلمان أصدر قراراً بتجميد العوائد النفطية في المصرف الخارجي، وبدعم من السفير الأميركي، حتى يتحقق توزيع عادل للعوائد على كل المناطق. وفي القاهرة، تعقد اجتماعات بين ممثلين عن مجلسي النواب والدولة بهدف إيجاد قاعدة دستورية للانتخابات. الأخبار الوافدة من القاهرة عن سير المحادثات متضاربة. وفي مدينة جنيف، وبرعاية من هيئة تدعى «الحوار الإنساني - HD» التقت مجموعة من الشخصيات الليبية المستقلة، للبحث عن صيغة سياسية تساعد على الخروج بالبلاد من المأزق القائم. وفي الكواليس الدولية، لا أحد يعلم ما الذي يجري وراء أبواب مغلقة، في عواصم الدول، ذات الصلة بالصراع الليبي وأطرافه. العواصم نفسها، لدى اندلاع الاشتباكات الأخيرة، حرصت على إصدار بيانات، حسب العادة، تدعو الأطراف كافة إلى ضبط النفس والابتعاد عن أعمال العنف.
الحوصلة أعلاه ليست بدقة تفاصيل الصورة من الداخل، لكنها، على الأقل، قادرة على منح القارئ خلفية مناسبة، للوضع المتردي سياسياً والمحتقن عسكرياً، بين مختلف الفرقاء في الصراع على السلطة، في بلد ما زال يدور على نفسه في المربع نفسه، وبحدود مشروعة أمام «الجهاديين»، والمهربين، والمهاجرين من كل الملل.
في المركز من الصورة الصراع المحتدم بين القطبين السيدين عبد الحميد الدبيبة وعائلته ومن يناصره من قادة الجماعات المسلحة من جهة، وفتحي باشاغا ومن يؤيده من جماعات مسلحة من جهة أخرى. ما جرى يوم الثلاثاء الماضي، وفقاً للتصريحات المنسوبة إلى الطرفين، يشير إلى أن السيد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة الوطنية، قد كسب الجولة، باعتراف منافسه السيد باشاغا، الذي تراجع منسحباً من العاصمة، عائداً إلى قواعده في مدينة سرت، منعاً لإراقة الدماء كما صرح مؤخراً. السيد باشاغا لمح إلى وجود مؤسسة مالية كبيرة تدعم منافسه، في إشارة ضمنية لمصرف ليبيا المركزي. وفيما بعد، قالت مصادر مقربة منه، إن حكومة الاستقرار الوطني برئاسته قد قررت مباشرة أعمالها في مدينة سرت. بالطبع، لمن يعرف مدينة سرت، والوضع الذي تعيشه منذ سنوات، لا بد أن يتساءل بشيء عن السبب وراء اختيار موقع، يبعد عن أكبر وأهم مدينتين ليبيتين، طرابلس وبنغازي. وماذا ستفعل حكومة السيد باشاغا في تلك المدينة ذات البنية التحتية المنهارة بسبب الحرب، ومن دون حصول الحكومة على أموال الميزانية، من مصرف ليبيا المركزي، ومن دون وجود مقرات أو موظفين وكوادر أو سفارات وقنصليات، ومحاطة بقبائل ما زالت كثير منها يتمسك علناً بالتأييد للنظام العسكري السابق؟ ويبدو أن حالة الإحباط النفسي للسيد باشاغا الناجمة عن فشل دخوله إلى العاصمة طرابلس وتسلم مقاليد الأمور، كما كان يأمل، قد تكون السبب وراء قرار اختياره هذا، إذ إن القرار البرلماني الذي صدر منذ أشهر قليلة غير قابل للتنفيذ، في ظل وجود السلاح وقرقعته، خصوصاً في العاصمة طرابلس.
لكن ما حدث يوم الثلاثاء الماضي، في رأيي، يعلم البداية لمرحلة جديدة في الصراع.
وأرجح أنها ستكون حرب كسر عظم. وأن رؤوساً كبيرة وعديدة ستدفع الثمن، كما حدث خلال الجولة الأخيرة من الاشتباكات، التي أدت إلى إقالة اللواء أسامة الجويلي من منصبه مديراً للمخابرات العسكرية، ونائبه مصطفى قدور قائد جماعة «النواصي»، لاتهامهما بانعدام الولاء لحكومة الوحدة.
وهكذا، سيظل الصراع محتدماً بين الليبيين حتى يتم التخلي عن الولاء للأجنبي، وما لم يجرِ ذلك، وهذا بعيد المنال في نظري، فسيظل الوطن مخطوفاً حتى إشعار آخر.